| جورج علم |
تكلّم وليد جنبلاط في دمشق بأبجديّة لبنانيّة مغروفة من “قعر الدست” السيادي. لم يطلب تفويضاً من أحد. هو مقتنع سلفاً بأنه ليس بحاجة، ولا يعلو مهماز فوق حصانه. قال ما هو مقتنع به. “فشّ خلقه”. شبك يديه وراء ظهره، وعاد إلى المختارة، تاركاً للأيام تراجيع الصدى، لعلّ وعسى…
إنه زمن أحمد الشرع. زمن سوريا التي تتهادى فوق بحر من الوعود المعسولة. زمن الرسائل المحبّرة بأمنيات وتمنيات نابعة من أصوليّة حديثة، برسم العواصم القريبة والبعيدة، ناقلة في عبّها وعود أمان وإطمئنان. ومع ذلك، يبقى هناك مكان للقلق والضبابيّة حول الحاضر، والمستقبل، والمصير. وتكمن صدقيّة الكلام في الأفعال، لا في الأقوال.
قبل جنبلاط، كانت باربرا ليف، مساعدة وزير الخارجيّة الأميركيّة لشؤون الشرق الأوسط، على رأس وفد دبلوماسي. لم تتحدث كما فعل جنبلاط، لا بل ألغت مؤتمراً صحفيّاً كان من المقرّر أن تعقده لأسباب أمنيّة، من دون أن تحدّد ماهيتها.
ووفق وكالة “رويترز”، فإن الوفد الأميركي بحث مع “هيئة تحرير الشام”: “إنتقال السلطة في سوريا، والتطورات الإقليميّة، ومحاربة تنظيم الدولة الإسلاميّة، ومصير صحفي ومواطنين أميركيّين إختفوا في عهد نظام الأسد، وإمكانية رفع هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب”.
ليس عند الأميركي كلام معسول، ولا رسائل معطّرة بالإطمئنان، بل واقعيّة مفرطة يشوبها الحذر، والدليل ما أعلنه وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن عندما قال: “إن ما سمعناه من هيئة تحرير الشام أمر إيجابي، لكن السؤال هو ما سيقومون به فعلاً..”.
تحدّد “الواقعيّة الأميركيّة” ما هو المطلوب تحقيقه، سواء في سوريا، أو في لبنان، مع الحرص الشديد على “إزدواجيّة المعايير”، بمعنى أن ما يصحّ على العرب من شروط وإلتزامات، لا يصحّ على “إسرائيل”. وجاءت باربرا ليف إلى دمشق لتملي ما هو المطلوب من “هيئة تحرير الشام”، كي يسمح لسوريا بالوقوف في الصف الطويل، بإنتظار حصولها على بطاقة رفع العقوبات، لكنها لم تفرض على بنيامين نتنياهو ما يجب فعله، لا بل تغاضت عن إعتداءاته المتمادية.
وتبرّر الواقعيّة الأميركيّة إزدواجيتها بحجّة “أن لا مكان للضعفاء أمام الأقوياء”، وأن القوي المتمكّن يبادر، ويفعل. في حين أن الضعيف العاجز يكتفي بالكلام، ونثر الأحلام. وتغضّ هذه الواقعيّة الطرف عن الكيان الغاصب الذي يتمادى باعتداءاته على إمتداد الجغرافيا السوريّة، غير عابىء بما تتضمّنه البيانات من إنتقادات وتنديدات، فيما المستهدف يكتفي بالنشيد الطافح بالوعيد.
والواقعيّة الأميركيّة ـ أو الإزدواجيّة ـ يعرفها لبنان، وهي تعرفه، تتغاضى عن الخروقات الإسرائيليّة لوقف إطلاق النار، وهي من يرأس اللجنة المشرفة على حسن تنفيذه. تطالب بالعدالة وفاعليّة القضاء، وترسل الطائرات الخاصة إلى عوكر لتهريب بعض المطالبين بالمثول أمام قوس العدالة. تنتقد الفساد والفاسدين، وتتعاطى معهم بمنطق الصداقة “والخوشبوشيّة”. تعد بالطاقة والكهرباء عبر سوريا، ثم تتذرّع “بقانون قيصر”، وكأن هذا القانون من صنيع القيصر الروماني، لا من صنيع “الأميركاني”!
يُقال بأن باربرا ليف مرّت بعوكر وهي في طريق عودتها إلى واشنطن لتطلع على الملف الخاص برموز النظام الأسدي الذين لجأوا إلى لبنان، لكن ليس من معلومات مؤكدة حول ذلك، خصوصاً أن بعض أصحاب القنوات المفتوحة على الرادار الأميركي للتنصت على جديد “الذبذبات” الرئاسيّة، يؤكّد بأن الزيارة ـ في حال حصولها ـ لا علاقة لها بإستحقاق 9 كانون الثاني، لأن السيدة ليف ملّمة بالوضع تماماً. وكما في دمشق، كذلك في بيروت. هناك ضجيج مواقف، وتصريحات تنتظر أفعالاً. وهنا في بيروت أيضاً، وإن إختلفت الإهتمامات، والمواضيع، والأولويات.
ضجيج أمراء الطوائف، والكتل النيابيّة، يقتصر على الرئيس التوافقي، والمواصفات المطلوبة لذلك الفارس الذي سيمتطي الحصان الأبيض، وينطلق من ساحة النجمة إلى القصر الجمهوري في بعبدا، مع فارق أن ضجيج دمشق لم يمر عليه الزمن، وأحمد الشرع في القصر، منذ أمس العصر، في حين أن ضجيج لبنان يدخل عتبة عامه الثالث، مع إستخفاف بعقول اللبنانيين، وحيرة لدى الدول الشقيقة والصديقة.
منذ سنتين وشهرين يعلو الصراخ حول مواصفات الرئيس. هذا يريده سيادي، وذاك إصلاحي، وثالث إقتصادي، ورابع توحيدي، وخامس إنفتاحي يعيد وصل لبنان بالشرق والغرب، وسادس مؤسساتي…
ولا يجوز التشهير بالخلفيات، وما يعتريها من أنانيات، وقد حوّل البعض الإستحقاق إلى فرصة للإستثمار، وجني المكاسب، متجاهلاً الطائف، ودستور الطائف، والصلاحيات المتبقيّة لرئيس جمهورية الطائف، وقد إنتقلت بمعظمها إلى مجلس الوزراء، وإنفتح الباب على “حرب الصلاحيات”!
لو كان النظام رئاسيّاً، لصحّ الإعتراف بأهميّة هذا الضجيج، وفعاليته، لأنه يدخل في صميم اللعبة الديمقراطيّة لحسن الإختيار، وإتخاذ القرار، أما أن يحصل كلّ هذا الفوعان لرئيس لا يملك من الصلاحيات الدستوريّة سوى مراسم بروتوكوليّة محدّدة، فإن في الأمر هذيان، أو إصرار على التفريط بالكيان!
يصحّ أن يتمتع الرئيس “بكاريزما” جاذبة، محببة، ونشطة، لكن أن تغدق عليه كل هذه المواصفات من المسؤوليات، فهذا منافٍ للنظام الذي ارتضاه أمراء الطوائف، ولدستور الطائف.
إن الضجيج الذي يتردد صداه في ديوانيات بيروت السياسيّة، إما يبيت نزوة إنقلابيّة على الطائف. أو يبيت عجزاً في تطبيق الطائف. أو يبيت رغبة في الحصول على الأصفر الرنان مقابل إنتخاب رئيس وفق الصلاحيات التي رسمها دستور الطائف… والأصفر الرنان، له زبائنه في لبنان!