“عباءة” فلسطين تجمع المختلفين.. وسوريا تفرّقهم!

| خلود شحادة |

أعاد “7 أكتوبر” الحلم للكثير من اللبنانيين والعرب على حد سواء بتحرير فلسطين، بعد أن استيقظ العالم على وقع “طوفان الأقصى”.

ظهر يوم السبت في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، شخصت الأنظار نحو المقاومة الإسلامية في لبنان، حيث كان المزاج السني يتمنى دخول “حزب الله” في الحرب من اللحظة الأولى، دفاعاً عن القضية الأولى للعرب والفلسطينيين، سواء تم المجاهرة بذلك أم لا.

على نحو آخر، حرّضت بعض القوى السياسية على دخول “حزب الله” في المعركة، لكن هذه القوى كانت تراهن، ضمناً، على تخلّف الحزب عن دعم غزّة، حتى تنطلق حملة التحريض عليه “أنظروا قد باعكم الحزب وهم الدفاع عن القضية الفلسطينية”، ولتعمل بذلك على عناوين الفتنة داخل الشارع الإسلامي مستحضرين مشاركة “حزب الله” بالقتال في سوريا. لكن بعض القوى كانت ترغب بمشاركة “حزب الله” في الحرب لعلّ “إسرائيل” تستغل الفرصة للقضاء عليه والتخلّص منه.

وفي الجهة المقابلة، كان العدو الإسرائيلي يكمن للمقاومة “شعبياً”، أي أنه يراهن على انعدام الحاضنة الشعبية للمقاومة في حال أقدمت على المشاركة بالحرب، على اعتبار أن ظهرها ضعيف بحكم غياب التحالفات مع الفرق السياسية الأخرى في الشارع المسيحي، وغياب القيادة السنية الوسطية، والتي يمكن أن يتحاور معها “حزب الله”.

إلا أن آمال العدو خابت سريعاً، بعد أن شكل الشارع السنّي، في مناطق انتشاره لبنانياً، بيئة حاضنة لجمهور المقاومة، بل تعدى ذلك ليكون هو بيئة داعمة للمقاومة التي تخوض حرباً وتقدّم التضحيات لمساندة الفلسطينيين في غزة، بينما يتفرّج العالم العربي على الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” في غزة.

استند الشارع السني في دعمه للمقاومة شعبياً وسياسياً إلى بعدين أسياسيين:

الأول يتمثل بالبعد الديني، والمنطلق من الدفاع عن المسلمين السنّة في فلسطين، وتحديداً في قطاع غزة، بعد تعرضهم لعملية إبادة بآلة الإجرام الصهيونية.

الثاني، يتمثل بالبعد السياسي، وهو “القضية الفلسطينية”، وما تشكله من أهمية في الوجدان الإسلامي ـ العربي، في ظل عجز عربي تام عن نصرة الحق، بينما كانت المقاومة الإسلامية تعتمد في بياناتها صيغة “الدفاع عن مظلومية الشعب الفلسطيني، ودعماً لمقاومنه الباسلة” على اختلاف أطيافها.

وعلى الرغم من محاولات خصوم “حزب الله” ترويج “تخاذل” الحزب في إسناد ودعم غزة، بعد أن أكد الشهيد السيد حسن نصر الله أن المقاومة ستساند فلسطين في المعركة، من دون الدخول إلى فلسطين “كما كان ينتظر البعض”.

لكن مع الأيام، حصل التصعيد التدريجي عسكرياً بتوجيه الحزب ضربات لأهداف نوعية داخل كيان الإحتلال، أدت إلى تهجير المستوطنين في شمال فلسطين المحتلة، بالإضافة إلى تراكم التضحيات المتمثلة بأعداد الشهداء الكبيرة، التي قدمها الحزب على مذبح حرية فلسطين وإسناد شعبها، بدأ يستعيد زخم الشارع السني، الذي تيقن أن الحزب لم يتخاذل، وأنه دخل جبهة الإسناد عن دراسة ووعي، ولم يخطُ أي خطوة بدون حسابات.. وهذا ما أثبتته الأيام والأحداث.

ولا يمكن القفز عن دور جبهات الإسناد التي قادها كل من الحوثيين في اليمن، والمقاومة الإسلامية في العراق، مما أكد مسألة مركزية، أن محور المقاومة هو الوحيد الذي وقف إلى جانب الفلسطينيين في غزة. وهنا كان الشارع السني أمام تفاعل وجداني مرتبط بطبيعة استهدافات “حزب الله” داخل الكيان.

بقي هذا المزاج مشدوداً لمتابعة عمليات المقاومة، وانتظار المزيد، وصولاً الى المحطة الأساسية، وهي اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله، حتى أن أعتى خصوم نصر الله في الشارع السني، أعربوا عن حزنهم عليه، وفرض هذا الاستشهاد مساراً في التفكير أن هذا الرجل قدم نفسه شهيداً لأجل فلسطين… وعلى طريق القدس.

وحتى الأبواق التي اعتادت الشماتة بالموت، أو الذين يقبضون ثمن ترويجهم للفتنة، لم يتمكنوا من إبداء رأيهم، لأن مزاج الشارع السني كان محتقناً من المجازر في غزة ومتعاطفاً مع “حزب الله”، ثم بدا مذهولاً لاغتيال السيد نصر الله وسط شعور بأن المقاومة في لبنان وفلسطين خسرت رمزاً كبيراً، بغض النظر عن الخلاف والاختلاف مع الحزب أو الموقف السابق من السيد نصر الله.

فكما اعتبر الشارع الشيعي أنهم خسروا الحرب باستشهاد نصر الله، اعتبر السنة أنه باغتيال نصر الله خسرت المقاومة المدماك الأساسي في محاربة “إسرائيل” ونصرة القضية الفلسطينية.

والعدو الذي بدأ بالحرب الهمجية والوحشية بعد اغتيال نصر الله، دفع بالشارع السني إلى فتح أبوابه على مصراعيها استقبالاً للنازحين اللبنانيين الذين أسموهم “ضيوفاً”.. ومن “أهل البيت”.

تجدر الإشارة، إلى أن حركة النزوح في عدوان 2024 أكبر بكثير من العام 2006، حيث أن كل قرى قضاء صور والزهراني بالإضافة إلى كل المناطق المتاخمة للضاحية الجنوبية، تعرضت هذا العام إلى قصف صهيوني عنيف، على عكس حرب الـ2006، مما دفع العديد من المواطنين إلى مغادرة مناطقهم بحثاً عن مناطق أكثر أمناً وأماناً.

لا يخفى على أحد حالة الخوف والهلع التي رافقت حالة النزوح لدى اللبنانيين، خصوصاً أن هذه الحرب تأتي في ظل انشطار في الساحة اللبنانية، وتبدد العديد من التحالفات السياسية، التي انعكست على الشارع اللبناني على اختلاف طوائفه.

وقد عملت آلة الموساد الصهيوني، على خلق الفتنة والشرخ بين اللبنانيين، وتحديداً بين السنة والشيعة، بدءًا من اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005، ووصولاً إلى حرب سوريا 2011، خصوصاً بعد انخراط عناصر “حزب الله” في المعارك داخل سوريا.

بدأت حركة النزوح من جنوب لبنان وبقاعه وضاحيته، بداية باتجاه صيدا، لكن في حالة صيدا استثناء، كونها بوابة الجنوب الجامعة أصلاً لكل أطيافه، إضافة إلى حصتها من الهمجية الصهيونية، بارتكاب العدو الإسرائيلي مجازر عدة في حارتها.

ومن صيدا إلى إقليم الخروب، الذي قال عنه النازحون أنه بمثابة “بيت ثان” لكل لبناني.

يقول محمد، وهو أحد النازحين من قرية في قضاء صور إلى منطقة جدرا، إنه عانى كثيراً مع صاحب الدكان القريب من منزله هناك، ليعطيه ثمن ربطة الخبز في كل مرة اشترى فيها الخبز،حيث يقول له صاحب الدكان “مش عارفين كيف نكافيكم”.

هذا نموذج الكثير من المواقف التي مثّلت اللحمة الوطنية الحقيقية بين اللبنانيين في قرى إقليم الخروب، خصوصاً أن العديد من أهالي المنطقة تشاركوا السكن مع النازحين الذين وصلوا تحت الصواريخ يوم الإثنين في 23 أيلول 2024.

ومن الإقليم إلى العاصمة بيروت، التي اكتظت بالجنوبيين والبقاعيين وأبناء الضاحية الجنوبية، وتحديداً الطريق الجديدة، التي فتحت أبوابها للنازحين، ليسكن العديد من أهالي الضاحية الجنوبية في منزل واحد مع أصدقاء أو معارف أو حتى غرباء كانوا شركاء في الوطن، في رحلة التهجير والمآسي والخسارات.

كما علق بعض أهالي المنطقة يافطات ترحيبية بـ”الزوار” بحسب ما أسموهم، إضافة إلى مبادرات فردية وشبابية من أهالي المنطقة بتأمين حصص غذائية وفرش للنازحين.

أما طرابلس، في اليوم الأول للنزوح ظهر إلى الواجهة مقطع فيديو يوثق تهجم أحد أبناء طرابلس على سيارة تحمل صورة شهيد في “حزب الله”، إلا أن هذا الفيديو كان “الوحيد” وقوبل برفض تام من أبناء الفيحاء، الذين أكدوا أن “الشعب اللبناني لبعضه”، وأن طرابلس عاصمة الشمال ترحب باللبنانيين “الضيوف” وليسوا “النازحين”.

شهود عيان، نزحوا إلى طرابلس كشفوا لموقع “الجريدة”، أن طرابلس تميزت بأسعار الإيجارات “المقبولة جداً” للمنازل، وآخرون أبلغوا عن أشخاص قدموا منازلهم بالمجّان للنازحين.

وكذلك كان الحال في الضنية والمنية وعكار، المناطق التي كانت “أم الفقير”، باعتمادهم بدلات الإيجار العادية من دون أي استغلال لارتفاع الطلب على المنازل، ولا الحاجة الملحة.

وعلى الرغم من أن الشارع السني يفتقد للزعامة، ويحاول بعض الساسة، المعروفون بمواقفهم المناهضة لـ”حزب الله”، “قضم” أجزاء من هذا الشارع، إلا أنهم لم يتمكنوا من التأثير على المزاج السني عموماً، وحتى الذين حاولوا التجييش ضد النازحين بتغريدات أو تصريحات، فإن أصواتهم لم تكن مسموعة.

احتضن الشارع السني على اختلاف مناطقه، أبناء الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، الذين يؤكدون أنهم لم يتعرضوا لأي موقف محرج، بل وجدوا أنفسهم بين أهلهم وناسهم.

وتداول ناشطون على مواقع التواصل الإجتماعي، صورة لشباب من تيار “المستقبل”، يوزعون الورد والحلويات على العائدين إلى بيوتهم، بعد سريان اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان.

هذه اللوحة الوطنية التي رسمها اللبنانيون، ركزت عدة ثوابت وهي كالتالي:

– كل الخلافات بين السنة والشيعة، لا تتعدى كونها خلافات سياسية محض، لا تصل إلى درجة الخلاف الوطني، وإذا ما صمت السياسيون الذين يحصنون أنفسهم ومراكزهم بالفتنة بين اللبنانيين، فإن الشعب لا يترك بعضه البعض.

– اللحمة الوطنية غلبت شعارات التفريق والتحريض، ومحاولات دق الإسفين التي قام بها المحرضون على مر السنين، واتفقوا على أن “دم الشيعي” المسفوك “على طريق القدس”، لا يمكن تخوينه .

– رغم استشهاد رفيق الحريري، وغياب ابنه سعد، إلا أن “التيار الأزرق” لم يتردّد في القيام بمبادرات، و”بيّضها”، في مساعدة الناس والوقوف عند حاجاتهم، بحسب تعبير أحد أبناء الجنوب.

استطاعت هذه الحرب، على الرغم من كل خسائرها، أن تسجل مكسباً أساسياً وضرورياً، وهو الوحدة الوطنية بين أبناء الوطن الواحد.

هذه الوحدة ستوجع العدو الإسرائيلي حتماً، ودلّ على ذلك اشعال جبهة سوريا في اليوم التالي لوقف إطلاق النار في لبنان، ليعيدوا بالنسبة لهم “أسباب الخلاف” بين السنة والشيعة في لبنان.

صحيح أن الأمين العام لـ”حزب الله” أعلن “الوقوف إلى جانب سوريا في هذه المواجهة، لكن يبدو أن هذه الوقفة لن تتجاوز “الرمزية”، وأن “حزب الله” لن يدخل مباشرة وبقوة في الحرب السورية كما جرى عام 2011، لأسباب عديدة، تبدأ بصون الشارع اللبناني ودرء الفتنة، ولا تنتهي بإعادة ترميم التنظيم عسكرياً، بعد الضربات الكبيرة التي تلقاها خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان، والتي أدت إلى اغتيال قادة الصف الأول في “حزب الله”، وعلى رأسهم الشهيد حسن نصر الله، بالإضافة إلى إصابة أكثر من 7000 مقاتل، واستشهاد أكثر من المئات من المقاتلين.

وما يعزّز عدم مشاركة “حزب الله” بزخم في مواجهات سوريا، هو أن بيئة الحزب غير متحمّسة للمشاركة، وأنها بحاجة لفترة استراحة، وأنها لا تريد خسارة ما تحقّق من لحمة وطنية وعودة جسور التواصل مع الشارع السنّي، وهو ما يحرص عليه أيضاً كل من الرئيس نبيه بري وحركة “أمل” و”حزب الله”، فضلاً عن أن الحزب لم يشارك فعلياً في هذه المواجهة على الرغم من كل الكلام الذي تردّد عن إرسال مقاتلين إلى سوريا.

يدرك فريقا الشيعة، “أمل” و”حزب الله” أن العدوان على لبنان وحّد اللبنانيين، خصوصاً سنّة وشيعة، والشيعة حريصون هذه المرة أن لا تفرّقهم حرب سوريا.