“نبوءات” محمد عفيف!

| خضر طالب |

عندما التقيت محمد عفيف في المرة الأولى، اكتشفت سريعاً أنه صحافي أكثر منه حزبياً!

نزعة الإعلامي تحكم الكثير من سلوكيات هذا المسؤول الحزبي الذي قد يكون من أقرب المقرّبين إلى شخصية بمستوى السيد حسن نصر الله.

عندما تكررت اللقاءات، كان يقيني يترسّخ أن محمد عفيف “زميل” أكثر منه مسؤول حزبي.

“صبحية الفول” التي يجمع بضعة أصدقاء إليها، من بينهم وزراء ونواب وسياسيين وإعلاميين، كانت تكشف مزيداً من شخصية محمد عفيف.

مزحة من هنا، و”قرصة” من هناك، ورسالة مبطّنة من هنالك…

أما اللقاءات المفضّلة، فهي “جلسة الاستجواب” في “سهرة ورق العنب” التي تجمع ثلّة صغيرة من الأصدقاء، يتلقّى فيها، بالنيابة عن “حزب الله”، “لكمات الود” و”وشوشات المحب”، فتتحوّل السهرة إلى “ثرثرة لطيفة” يرتاح فيها محمد عفيف إلى “براءة” أصدقائه، وصدق رأيهم، و”ثريا” أفكارهم، و”سوسن” نوياهم، فيحدق أحياناً في الفراغ وكأنه “رنا” إلى “جمال” فكرة، أو ربما “ألفا” من الأفكار المتلاطمة وكأنه تلقّى بشرى “زكريا”…

نجح في نسج علاقة صداقة مع عشرات الإعلاميين، في كل المواقع والمؤسسات والأهواء السياسية، فقط لأنه كان يتعاطى بعقل براغماتي، وبمرونة استثنائية، وحيوية وحضور وموضوعية، حتى أصبح مكتبه “باباً” لعلاقات سياسية من سياسيين وقوى سياسية تتجنّب “الطابع الرسمي” للعلاقة مع “حزب الله”، فتكتفي بعلاقة مع “الحاج محمد عفيف”، لإدراكهم أنه يمتلك هامشاً واسعاً من حرية الحركة والتصرّف في مدّ الجسور وبناء العلاقات وفتح القنوات المقفلة، خصوصاً أنه كان يحمل “شيفرة” التواصل المباشر مع الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله، فيصارحه بهواجسه، وينقل إليه بصدق وأمانة ما يحصل خارج “أسوار” الحزب، ويسمع من “السيّد” ما يشجعه على هذا المسار أو ينصحه بالتروّي في ذاك المسار…

حظي محمد عفيف بثقة عالية من السيد نصر الله، منحته قوة وثقة في أدائه وسلوكه وتعاطيه وعلاقاته وجرأته وصراحته، داخل الحزب، وخارجه أيضاً.

في معظم لقاءاتنا، كان يحب أن يسمع أكثر مما يتحدّث، إلا عندما يصرّ الحاضرون على الحصول على أجوبة منه على أسئلة كثيرة مطروحة.

كان محمد عفيف يمتلك قدرة على التحليل والاستنتاج، ولا يتوانى عن المسارعة إلى تقديم وجهة نظره في الإطار التنظيمي لـ”حزب الله”، ولا يتردّد في تقديم خلاصات استنتاجاته إلى السيّد نصر الله.

في واحدة من أخطر تلك الاستنتاجات، وقبل يوم من اغتيال القائد العسكري للحزب الشهيد فؤاد شكر، تنبّأ ـ بالتحليل ـ أن العدو الإسرائيلي سيستهدف قادة الحزب في الضاحية، وأنه سيتّخذ من قصف الجولان آنذاك ذريعة، على الرغم من أن قصف الجولان هو عمل إسرائيلي محض، وذهب إلى خلاصة بأن فؤاد شكر سيكون الهدف الأول للعدو الإسرائيلي.

لم يخفِ محمد عفيف هذا الاستنتاج، أمسك هاتفه وحاول الاتصال مع شكر الذي كان غائباً عن السمع، فطلب إبلاغه للإتصال به. بعد ساعات، تلقى اتصالاً من شكر وبدأ الكلام بمزاح بينهما، ثم سأله عفيف: “أين تتوقعون أن يضرب العدو بحجة قصف الجولان؟”. أجاب شكر: “سيكون هناك تصعيد في الجنوب، وربما باتجاه البقاع… ماذا تتوقّع أنت؟”. رد عفيف: “لدي مخاوف أن العدو سيضرب في الضاحية”.

استغرب شكر هذا الاستنتاج ورأى أن العدو لن يجرؤ على استهداف الضاحية أو بيروت، مشيراً إلى تطمينات تلقاها “حزب الله” عن تحييد الضاحية. لكن محمد عفيف صدم فؤاد شكر بقوله: “لا أصدق هذه التطمينات. أعتقد أن إسرائيل ستضرب في الضاحية، ولدي خشية كبيرة أنك أنت تحديداً ستكون الهدف رقم واحد.. لذلك علينا التنبّه”.

شعر محمد عفيف أن شكر لم يقتنع كثيراً بوجهة نظره، فاتصل مساء بالسيد حسن نصر الله، وصارحه بهواجسه، فاستمع إليه السيد نصر الله بتأنٍّ، وسأله عن العناصر التي دفعته لهذا الاستنتاج، فأجابه محمد عفيف بخلاصة تحليله.

في اليوم التالي، شنّ العدو الإسرائيلي غارة على مبنى في الضاحية الجنوبية استهدف فيها القائد العسكري فؤاد شكر…
لكن محمد عفيف الذي كان يحذّر إخوانه في الحزب من الاغتيال، صار ينتظر اغتياله، بل ويسعى إلى الاستشهاد، خصوصاً بعد استشهاد السيد حسن نصر الله، وما جرأته بعقد مؤتمرين صحافيين في وسط الضاحية الجنوبية بين أنقاض الدمار، ومشاركته في اعتصام علني في ساحة الشهداء، واستمرار استعماله هاتفه بشكل طبيعي، إلا محاولة منه للحصول على الشهادة ليلتحق بمن أحب.

مع استشهاد محمد عفيف، يكون “حزب الله” قد خسر قامة كبيرة لعبت دوراً هاماً في صياغة إعلام حزبي منفتح أكثر من إعلام أحزاب تصنّف نفسها بأنها ليبرالية وإعلامها يناقض شعاراتها المرفوعة.

مؤلم جداً اغتيال الصديق محمد عفيف، وقد ترك وجعاً عميقاً في قلوب من عرفه عن كثب، حليفاً كان أو خصماً.

رحم الله الشهيد الكبير، والصديق الذي لطالما كان وفياً لأصدقائه.. وما أكثرهم.