| علاء حسن |
كَثُر الحديث في اليومين الماضيين حول وقف إطلاق نار قريب في لبنان، في ظل الحديث عن إمكانية عودة الموفد الأميركي آموس هوكشتاين في الأيام المقبلة لتسويق هذه الفكرة، وهي الفكرة نفسها التي ترددت في الأوساط اللبنانية كما سربتها وسائل إعلام العدو الاسرائيلي في ذات الوقت.
وقد تحمس البعض لترويج هذه الفكرة إنطلاقاً من مجموعة من المعطيات المتداولة، بالإضافة إلى ما قيل إنها أحاديث وردت في أروقة أكثر من جهة دولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
على أن هذه المعلومات التي استند إليها هؤلاء يمكن تلخيصها وفق الآتي:
أولاً ـ رغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إنهاء النزاعات في المنطقة، وحتى في أوروبا (الحرب الروسية الأوكرانية)، للتفرغ للمنافس الأكبر له عالمياً وهي الصين. علماً أن استراتيجية ترامب منطلقة من خلفية تجارية وليس خلفية أمنية، كما يقول هؤلاء، وبالتالي، بالنسبة له، فإن تخفيف حدة النزاعات يؤمن له فرصة أكبر للاستثمار وتالياً ربح أكثر لأميركا.
ثانياً ـ بدراسة توزيع الناخبين الذين صوتوا لترامب في الانتخابات، يمكن الوصول إلى نتيجة مفادها أن أغلبية هؤلاء ينقسمون إلى قسمين: قسم عنصري يحمل راية “أميركا أولاً”. وقسم مستاء من تأثيرات سياسة الديموقراطيين على الاقتصاد الأميركي، فضلاً عن الصوت العربي في أميركا الذي عاقب بايدن على مواقفه المتماهية مع العدوان الصهيوني على كل من غزة ولبنان. بالتالي، فإن أولوية ترامب سوف تكون تلبية رغبات هؤلاء عبر إنهاء النزاع وتحسين الوضع الاقتصادي في أميركا نفسها.
ثالثاً ـ يقدّر الخبراء الاقتصاديون أن قدرة الكيان على الاستمرار في الحرب لم تعد تتجاوز 3 أشهر على أبعد تقدير، ومن بعدها يصبح الاقتصاد مانعاً من استمرار الحرب، وبالتالي على الكيان إيجاد مخرج سريع قبل الوصول إلى نقطة الانكسار، مما يعني ارتفاع حظوظ وقف إطلاق النار في الفترة القصيرة المقبلة.
رابعاً ـ والأهم، فشل أهداف العدوان الصهيوني على لبنان. فلا هو استطاع إنهاء “حزب الله”، ولا تمكن من خلق شرق أوسط جديد، ولا حتى أعاد سكان الشمال إلى مستوطناتهم كما وعدهم قبل وفي بداية العدوان. بالتالي، سوف يسعى بنيامين نتنياهو إلى اعتبار ما حققه لغاية اليوم من قتل لقادة المقاومة، وعلى رأسهم الشهيد السيد حسن نصر الله، وتدمير عدد كبير من قرى الحافة الأمامية فضلاً، عن إخراج عدد من المقاتلين من الخدمة عبر عملية “البايجر” واللاسلكي، وعدد الشهداء والجرحى خلال فترة العدوان، بالإضافة لما اعتبروه ضرب البنية الصاروخية للمقاومة… كل هذه “الانجازات” يستطيع العدو اعتبارها انتصاراً يحقق من خلالها وقفاً لاطلاق النار من دون قدرة المقاومة على الاستمرار بتهديد الجليل دخولاً أو قصفاً، وهو ما يعني أن الكيان سيتمكن من العيش بسلام لفترات طويلة، خصوصاً إذا ما ترافق وقف إطلاق النار مع إلزامات تضيق الخناق على حركة المقاومة جنوباً وحتى شرقاً.
لكن، في المقلب الآخر، يجب الانتباه إلى عدد من العناصر المؤثرة في استمرار الحرب القائمة، والتي من غير المؤمل أن تصبح هامشية لصالح العناصر المؤثرة على وقف اطلاق النار:
أول هذه العوامل هو الخطأ في التعامل مع هذا الكيان من منطلق ما عهدناه في العقود الماضية، فالكيان الذي استطاع الانقلاب على المفاهيم الاسرائيلية نفسها، والعقيدة القتالية لجيشه، وقاتل على عدد من الجبهات لمدة عام وشهر لغاية الآن، يقاتل تحت عنوان “حرب القيامة الجديدة”، وهو ما يعني أنه ماضٍ في حروبه حتى التخلص من التهديدات التي تحيط به ليضمن ـ ليس سنوات من السلام ـ بل عقوداً من السيطرة والتمد.د وقد أظهر في هذه الحرب قدرة عالية على التعامل مع أكثر من جبهة في ذات الوقت، بالإضافة إلى امكانات تكنولوجيا، واعتماد الحروب الهجينة، وهو ما حقق له انجازات تكتيكية لغاية اليوم.
لكن ما لم يحققه العدو، هو استثمار الانجازات التكتيكية في مكتسبات استراتيجية. مما يعني أن العدو، وبعد سنة ونيف من حروبه، لا يزال يتخبط في نفس الدائرة التي بدأت الحرب منها. فلا غزة استسلمت، ولا الأسرى تم تحريرهم، ولا سكان الشمال تمكنوا من العودة إلى المستوطنات، ولا حصل أي تغيير في المعادلات السارية منذ انتهاء حرب تموز عام 2006. الأمر الذي يعني أن البيئة الاستراتيجية الاسرائيلية لا تزال في نفس المربع، ولم يحصل أي تغيير صعودي أو سطحي فيها، رغم كل الهروب الذي قام به نتنياهو إلى الأمام خلال العام المنصرم.
هذه المعادلة تعني أن أي وقف لإطلاق النار لم ينضج بعد، وذلك لأن وقف إطلاق النار يحتاج إما إلى تحقيق هدف كبير، وبالتالي تصبح باقي الأهداف مضيعة للوقت لكون المتغير الاستراتيجي في المعادلة قد تحقق. وإما الاعتراف بالهزيمة والانكفاء، وهو ما يعني تراجع الكيان إلى ما قبل ولاية ترامب الأولى.
بعبارة أخرى، إذا ما اعتبرنا أن الحرب الحالية هي استمرار لما بدأه ترامب من مساعدة “إسرائيل” في التوسع داخل المنطقة من خلال ما قدمه لها خلال سنواته الأربع الأولى، فإن وقف الحرب الآن يعني ضرب المشروع برمته والعودة مجدداً إلى نقطة الصفر، مع فارق أن محور المقاومة في هذه الحالة سيكون له اليد الطولى في رسم خريطة المنطقة، ولو تقاسماً مع الولايات المتحدة.
أما تبسيط المسائل عبر التفاؤل بوقف إطلاق نار قريب، فهو منطلق في جوهره قبول “حزب الله” الشروط الأميركية ـ الصهيونية في ما يتعلق بالقرار 1701 المعدّل، وفك الارتباط مع غزة، وبالتالي إعلان الهزيمة حتى لو لم يتم ذلك صراحة، الأمر الذي ليس مطروحاً في هذه المرحلة لدى “حزب الله”، خصوصاً بعد فشل العملية البرية التي استمرت أربعين يوماً، والتي كانت قطب الرحى في تغيير البيئة الاستراتيجية للكيان.
من جهة أخرى، من غير المعلوم أن لا يحصل تكاتف دولي عربي اقتصادي لتمويل الحرب مع مجيء ترامب إلى سدة الرئاسة، خوفاً من انتصار المقاومة وتداعياتها على الجغرافيا السياسية في المنطقة خصوصاً، وبالتالي تتبدد التحليلات المتعلقة بتأثيرات الاقتصادين الأميركي والإسرائيلي على الحرب الحالية.
أخيراً.. أصبحت هذه الحرب، شئنا أم أبينا، حرب “كسر عظم” بالنسبة لأطرافها كافة، ولن يقبل أي طرف من الأطراف إنهاءها قبل سماع أصوات تَكَسُّر عظام الطرف الآخر. وحتى تحين تلك اللحظة، فإن كل الكلام حول توقفها لا يعدو سوى تمنيات للعودة إلى الحياة السابقة التي لن تعود كما كانت في مطلق الأحوال. وعلى من يراهن على هزيمة المقاومة إعادة حساباته من جديد كي لا تخيب آماله، كما في كل المرات السابقة. وعلى من يراهن على حرص واشنطن على الاستقرار في لبنان أو بقاء كيانه، البدء بالتحضير لحصار اقتصادي يشمل الجميع دون استثناء، لأنه في معارك الكبار لن يكون هناك مكان للاعتبارات الصغيرة ولا لـ”العبيد”!