الزعران!

عندما بدأت الليرة اللبنانية بالانهيار، سارع التجار إلى رفع أسعارهم بما يزيد عن سعر الدولار في السوق السوداء.

تفاقم الانهيار الاقتصادي، وجاءت محاولات دعم المواد الغذائية والأساسية من أجل تعويض الفارق الوهمي بين السعر الرسمي للدولار وبين سعر السوق السوداء.

الكل بات يعرف أن لعبة الدولار تقف خلفها منظومة مالية سياسية.

والكل يحمّل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مسؤولية أساسية عن هذا الانهيار.

المفارقة، أنه بالرغم من كل المحاولات التي جرت آنذاك لإقناع رياض سلامة بالتدخل في السوق لمنع ارتفاع سعر الدولار، بدلاً من سياسة الدعم، فإن حاكم مصرف لبنان بقي يناور ويتهرّب. كان يمكن لتدخل مصرف لبنان في السوق أن يكون بديلاً من الدعم، وأن تصل فائدته إلى كل اللبنانيين، بدل أن تفتح أبواب السمسرات والاحتكارات وبازار التجار الذين لم تظهر على بعضهم نفحة من الضمير الوطني أو الإنساني.

كذلك الأمر بالنسبة للمطاحن ومستوردي الأدوية وأصحاب الصيدليات ومستوردي المشتقات النفطية والموزعين وأصحاب المحطات.

التهريب والتخزين والاحتكار ورفع الأسعار والأسواق السوداء في الخبز والحليب والحبوب والخضار والبنزين والمازوت والدواء!

بكل أسف، كشفت تلك المرحلة وحشية القسم الأكبر من التجار، من مختلف مستوياتهم، وكذلك جشع كثير من اللبنانيين الذين ارتكبوا الموبقات، بحماية سياسية، وربما أيضاً بشراكة بعض السياسيين.

أرقام الأرباح التي حققها هؤلاء تفوق الخيال…

انتهى الدعم…

سمحت هذه الحكومة بـ”دولرة” كل شيء في لبنان.

حتى رئيس الحكومة، قال ما معناه إنه لم يعد مقبولاً أن يدفع اللبناني دولار ونصف أو دولارين ثمن المياه أو الكهرباء أو الاتصالات، تحت شعار “بدنا نتحمّل بعض”! وكأن الدولة تدفع رواتب موظفيها بالدولار! وكأن الليرة اللبنانية غير موجودة أو غير معترف بها من رئيس الحكومة نفسه!

مع هذه “الدولرة”، ارتفعت أسعار كل شيء بشكل جنوني مع القفزات التي قفزها الدولار الأميركي في السوق السوداء، خصوصاً حين وصل إلى ما يقارب 33 ألف ليرة، وحينها اعتمد التجار سعر 35 و40 ألف ليرة في تسعير البضائع.

بعد ذلك هبط سعر الدولار، لكن الأسعار لم تنخفض، بحجة أن التجار قد اشتروا بضائعهم على سعر مرتفع، وهم ينتظرون حتى يبيعوا هذه الكميات لكي يخفضوا الأسعار!

القاعدة هذه اعتمدت في الرغيف والدواء والحليب والمواد الغذائية والاستهلاكية والخضار.. وفي البنزين والغاز والمازوت والمولدات الكهربائية.. وفي ميكانيك السيارات والأدوات الصحية… في كل شيء!

كأنها “كلمة سرّ” وصلت إلى كل هؤلاء!

بكل أسف أيضاً، صدقتهم الدولة…

لم تقم بأي إجراء حقيقي، باستثناء بعض التمثيليات التي لم تؤدِّ إلى تراجع الأسعار.

وصل الدولار هبوطاً إلى أقل من 21 ألف ليرة منذ أكثر من شهر، لكن الأسعار ما تزال على سعر دولار الـ35 ألف و40 ألف ليرة… ولا من يحاسب.

حاولت وزارة الطاقة مواكبة هبوط الدولار، فأقدمت على إصدار جداول أسعار المحروقات مرتين إلى ثلاث مرات أسبوعياً. لكن تجار المحروقات، المستوردين والموزعين وأصحاب المحطات، جنّ جنونهم، وهددوا بالتوقف عن العمل بحجة أنهم دفعوا ثمن الكميات على سعر دولار مرتفع!

خرج أصحاب المحطات وأصحاب شركات التوزيع ببيانات تحذّر من أن اعتماد جدول يومي للأسعار سيؤدي إلى إفلاسهم! طالبوا بجدول أسبوعي.. وحصلوا على مطلبهم.

هل تواطأت وزارة الطاقة معهم؟ أم أنها رضخت لتهديداتهم؟

في كل الأحوال، نفّذت وزارة الطاقة مطلب تجار المشتقات النفطية، وعادت لإصدار جدول أسبوعي لأسعار المحروقات.

اندلعت الحرب في أوكرانيا. ارتفع سعر برميل النفط. جنّ جنون تجار المشتقات النفطية.

ما رفضوه عندما انخفض سعر الدولار، يطالبون به اليوم.

جدول يومي لأسعار المحروقات.

لم تفعل وزارة الطاقة. لجأ هؤلاء التجار، من مستوردين وموزعين وأصحاب محطات، إلى إخفاء البنزين والمازوت، وأقفلوا المحطات.

عندما كان سعر الدولار ينخفض، رفضوا الجدول اليومي لأسعار المحروقات. وعندما ارتفع برميل النفط، يقفلون المحطات لإصدار جدول يومي للأسعار!

هل هناك فجور أكبر؟!

هل ترضخ الدولة لهم؟

بالتأكيد… أولاً، لأن كثيراً من مكونات الدولة هم أصحاب شركات أو شركاء في قطاع المشتقات النفطية.

وثانياً، لأن الدولة تحلّلت ولم تعد موجودة فعلياً.

وثالثاً، لأن الناس نيام!

مَن يدفع الثمن؟!

الناس فقط…

لكن الناس أصبحوا عاجزين، طوعاً أو تطوعاً أو تواطؤاً…

أين “الثوار”؟!

ما الذي يشغلهم؟!

الانتخابات؟ أم أن الـ”ريموت كونترول” لا تحرّكهم؟ أم أنهم لا يشعرون أصلاً بأي أزمة؟!

هذا “الخمول” في ردة فعل الناس يريح الحكومة من مواجهة مع  التجار، وهم متفقون في ما بينهم أصلاً، لكن هذا الانكفاء الشعبي يشجّع التجار على مزيد من الفجور.

في المحصلة، ليس هناك من يحاسب: لا الدولة تحاسب، لأنها إما عاجزة، أو لأن بعضها شريك. ولا الناس يصرخون، لأنهم باعوا أصواتهم، أو يعرضون أصواتهم للبيع!

إنه الفجور السافر…

إنه الفلتان…

إنهم الزعران!

“الجريدة”