و14 آذار .. تحبّذ ثقافة الصواريخ!

| جورج علم |

مرّت ذكرى”14 آذار” هذا العام خالية خاوية، من دون نبض، من دون رذاذ على ما تبقى في الساحة المهجورة من بذور واعدة. وكأن لا شتاء مرّ من هنا، يبشّر بربيع واعد، ولا صيف يلوّح بسنابل ذهبيّة، ولا بيادر طافحة بقناطير الحنطة، بل قنوط، ووحشة، وغربة سواعد عن وطن يغادر، وجشع يدكّ بالأساسات، يشلّعها كما تدّك العاصفة بالشجرة، تشلّع غصونها، تذريها مع الريح!

ويبقى في دفتر الأيام شيء من الكلام حول انتفاضة عبرت يوماً فوق فواصل الطوائف والمذاهب، والفئويات، وافترشت أرض الكرامة الوطنيّة بشروال، وقنباز، وعباءة، وعقال، وكوفيّة، وطرطور، ولبّادة، وسواعد فتيّة، وصيحات عنفوان: كلّنا للوطن…

ماذا بقي من “الدمن” في ساحة 14 آذار؟

بقي العصب، ويقظة الوجدان، والغليان المكبوت، والرهان على التغيير… على أن يأتي بعيداً عن برك الدم، وعلى صهوة حوار جاد ملتزم بالقواعد والأصول الدستوريّة ـ الميثاقيّة. أو يتدلّى مُنزّلاً من الخارج، كامتداد لتسوية كبرى في المنطقة، عبر ساعي بريد عنوانه “الخماسيّة” العربيّة ـ الدوليّة.

تشتتت قوى 14 آذار. ضاعت في الزواريب الضيقة، أخذتها الطموحات الصغيرة، والمصالح الفئويّة إلى حيث يجب ألاّ تكون، لكن الشعلة باقية، وإن خَفَت وهجها بفعل الانقسامات، والأنانيات.. الشعلة باقية لأن الإحتلال لا يحمل عنوانين، هو هو أيّاً كان الإسم والمسمى. والقمع لا يحتمل وجهين، إنه القبح المتأصل من طغيان جائر، لا يقيم وزناً للتوازنات، ولا إحتراماً لسائر المكوّنات. نظره أحول، يرى بعين واحدة، يستمد قوّته من قرقعة السلاح، ومن الدعم الخارجي المتاح المباح.

مرّت ذكرى 14 آذار هذا العام، بصمت وتهيّب. كيان حضاريّ يغادر، والجنازة الكبرى تطوف في شرايين المدينة الثكلى المكلومة، تاركة وراءها أسئلة بحجم مصير وطن، وشعب، في ظلّ غيمة سوداء طافحة بالشعارات الشعبويّة لتوفير شيء من العزاء.

ماذا يعني ازدواجيّة الولاء؟ وازدواجيّة السلاح؟ وازدواجيّة المعايير؟ وازدواجيّة الممارسات؟ وإلى ما يؤول كلّ هذا الخطاب المفخخ بعبارات تنمّ عن رغبات وتوجهات صعبة المنال، ولا قدرة لدى المعنيّين على الإحتمال؟ وهل البيئة الحاضنة راغبة فعلاً، ومتصالحة مع نفسها للقيام بدور الوكيل نيابة عن الأصيل، وتسديد خدمات لبعض الجهات على حساب المناعة الوطنيّة؟!
وصلنا إلى هنا. وماذا بعد؟ ماذا عن مواصفات اليوم التالي؟ أيّ وطن؟ أيّ لبنان تريدون؟ أيّ كيان؟ أي نظام؟ أيّ وظيفة؟ آن أوان كشف المستور، والخروج من ازدواجيّة الشعارات إلى شجاعة الجرأة على النطق بالحقائق كما هي، والمصارحة بالأهداف، والأبعاد، والمرامي… هل نريد وطناً، أو ساحة؟ هل نريد دولة أو دويلات؟ هل نريد عامل استقرار، وازدهار، أم عامل “ديليفري” للوجبات السريعة غب الطلب؟!

قد تصحّ نظرية الاختزال في علم الحساب. لكن أن تصحّ في علم السياسة، وفي مجتمع تعدّدي كالمجتمع اللبناني، فهذا يعني اختزال وطن، وصيغة، وميثاق، ومئة عام من عمر “لبنان الكبير”، وثمانية عقود من عمر الاستقلال، لبناء منصّة لمشروع إقليمي لا حول لنا فيه، ولا قدرة على إشباع نهمه وطموحاته.

في هذه الزاوية المنفرجة على حاضر وطن، ومستقبل كيان، تتفتق براعم 14 أذار من جديد في ربيع واعد قد يكون حافلاً بشقائق النعمان، كما قد يكون حافلاً بمساكب الورد، وزهر البيلسان.

إنه لمن الغباء القول بأن الفراغ هو نتيجة طبيعيّة لتباينات محليّة. إنه بالمطلق فعل إرادة مستوردة، وتصميم خارجي، لتعميم التآكل، والإمساك بوطن متداعي، بهدف إعادة بنائه وفق المواصفات الخارجيّة المطلوبة. ومن المعيب القول بأن الخلاف يدور حول مواصفات رئيس الجمهوريّة. إنه في الحقيقة خلاف حول مواصفات الجمهوريّة. حول أي لبنان؟ وأي نظام؟ وأيّ صيغة؟ وهل نبقى تحت عباءة العيش الواحد المشترك، أم نذهب بعيداً نحتمي تحت عباءات الطوائف، والمذاهب، والفئويات، والجهويات؟!

وفي زمن “الكسوف الوطني”، يكثر الحديث عن “الشراكة” كممر إلزامي للعبور من الساحة المباحة، إلى الوطن الجامع. لكن المحطات المزروعة على طول الطريق الممتد منذ بزوغ الاستقلال، إلى المكان الذي يراوح فيه هذا اللبنان، قد أثبتت بأن الشراكة لا تصنع وطناً بل “بورصة مصالح”، والذي يصنع الوطن هو التنافس الحضاري الإبداعي لبناء الأفضل، والأجمل، والأكمل.

هو دولة القانون، والمؤسسات، لا دولة الفئويات، والميليشيات، والمحميات. أما الشراكة والمشاركة فمتفرّعة عن الشركة، وهذه يديرها مجلس إدارة يضمّ مجموعة من كبار المضاربين، حاملي الأسهم، الذين يتوخّون الربح السريع، ومضاعفة الرصيد بمعزل عن الأخلاقيات، وتلك السرديات التي تقول بالوطن الجامع لجميع أبنائه، السيّد، الحر، المستقل… إلى آخر المعزوفة الممجوجة…

لقد مرّ تاريخ 14 آذار هذا العام، صامتاً، كئيباً، مزنّراً بعبوات ناسفة:

أولاً: الانقسام الحاد ما بين المكونات حول مواصفات اليوم التالي في لبنان، وحول مستقبل اللجوء، والنزوح، والخيم، والمخيمات، وجيل لبنان المستقبل، التنوعي، الجديد!

ثانيّاً: إن فائض القوّة لا يصنع وطناً، بل ساحة، ومنصّة، وصندوق بريد.. والشعارات الشعبويّة لا تولّد إنسجاماً، بقدر ما تعمّق الإنقسام.

ثالثاً: إن ثقافة “الميليشيات”، لا يمكن أن تختزل سائر الثقافات، أو تتحكم بها، أو تنوب عنها، وكلّ نافر ضار.

رابعاً: قد لا تملك قوى 14 آذار 100 ألف صاروخ، ولكنها مؤمنة بثقافة الصواريخ المتّجهة نحو الفضاء الخارجي في رحلة علميّة، إبداعيّة، إستكشافية. هل من وحدة حال بين الصاروخين، والمهمتين، والوظيفتين؟ هناك شكوك من أن تؤدّي الممارسات إلى تعدد الساحات على مساحة الوطن، وإلى غياب الكيان تحت وطأة الإرتهان!

… ويبقى من 14 آذار العنوان.. وهذا ليس بقليل.. ولا بتفصيل…