الشراكة وتفعيل التفاهمات الداخلية ومع السلاح “دفاعاً عن لبنان”: التيار يدشّن مرحلة “التموضع العقلاني”

جريدة الأخبار

|غسان سعود| 

عشية مغادرة الرئيس ميشال عون قصر بعبدا، كان التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل قد خبرا كل السلبيات الممكنة. كُبِّل التيار بسلطة استنزفت شعبيته من دون أن تحقّق له أدنى المكاسب، ولم يظفر منها بمشروع إنمائي كبير واحد بعد إيقاف مرفأ جونية السياحي والسدود ومعامل الكهرباء. وحتى حين كان يقترب من إنجاز شيء ما، كالنظام النسبي في الانتخابات النيابية أو اتفاقية تنقيب وترسيم، تعرّض لحملات منهجية لإفراغ أيّ إنجاز كهذا من أيّ مضمون إيجابي وتحويله من نعمة إلى نقمة. قيل للقوى الوطنية إن التيار «قوة طائفية رجعية انعزالية (…)». وقيل للقوى الطائفية إنه «قوة مسيحية تريد أن تحاصصهم وتأخذ منهم في كل كبيرة وصغيرة» مع التوقف طويلاً عند «لازمة» حرّاس الأحراج. وقيل للرأي العام المسيحي إنه «قوة ذمّية تابعة تغطي استيلاء حزب الله على الدولة». قيل لكل مجموعة – مهما كان حجمها أو دورها – كل ما تودّ سماعه وأكثر لتنقم على الرجل وتياره، طبعاً من دون إغفال العثرات والخطوات الناقصة واللامبالاة العونية التقليدية بعدم توضيح الموقف بذريعة عدم امتلاك الإمكانات الإعلاميةوهنا ثمة مفارقات: خلال 18 عاماً، عقد التيار تفاهمات سياسية مع حزب الله والحزب الشيوعي (7 كانون الأول 2006) والتنظيم الشعبي الناصري والقوات اللبنانية وسعد الحريري، فيما الانطباع السائد أنه قوة صدامية «لا تترك للصلح مطرحاً». عقد تحالفات انتخابية مع مختلف المكوّنات السياسية، فيما الانطباع أنه «لا يأخذ ولا يعطي» أو يسعى دائماً ليأخذ من دون أن يعطي. ومن المفارقات أيضاً أن الإعلام لا يحرّك ساكناً أمام أحزاب (وجمعيات) تُموّل من الخارج أو تستخدم موارد الدولة لتمويل نفسها، فيما تقوم قيامته إذا نظّم التيار عشاء لجمع الأموال. وإذا كانت وسائل الإعلام اللبنانية استخدمت كل «ذخيرتها» ولم تبقِ في المستودعات شيئاً، ذهبت الولايات المتحدة إلى أبعد ما يمكنها الوصول إليه حين وضعت باسيل على لائحة العقوبات السياسية، وكذلك فعل الأوروبيون حين أخرجوا أنفسهم بأنفسهم من دائرة التأثير في باسيل أو عليه، فيما أخذ الخليجيون الأمر بشكل شخصيّ جداً بعد رفض باسيل بوصفه وزيراً للخارجية اللبنانية عزل سوريا وإخراجها من جامعة الدول العربية، ففعلوا بدورهم أكثر بكثير من «كل ما يمكن فعله».

وفي ظل النقمة الشعبية والاستقطاب الموجّه والمدروس من الجمعيات للحزبيين، والمشاكل الداخلية المتراكمة، كان يمكن القول إن التيار شهد أياماً لا يمكن أن يمرّ في السياسة أسوأ منها، وخصوصاً بعد مغادرة عون للقصر، وإدراك عدد كبير من الضباط والقضاة أن مصلحتهم ليس فقط في «نقل البندقية»، بل في قطع كل أشكال العلاقة مع العونيين. وبلغ السوء ذروته مع تضعضع الخطاب السياسي للتيار، فلم يعد «ضياع» المنسقين والمسؤولين ينبع من وجود خطابين اقتصاديين للتيار، واحد خاص بمجلس الوزراء وآخر في مجلس النواب، وإنما من وجود خطابين سياسيين أيضاً مع أخذ رئيس التيار الوطني الحر مداه في بلورة «التموضع» وتثبيته. لكن، اليوم، عشية استعداد التيار لإحياء ذكرى 14 آذار بعدد كبير من الأنشطة، من بينها إقرار ورقة سياسية جديدة، تبدو مجمل الظروف الخاصة بالتيار أفضل مما كانت في مثل هذه الأيام من العام الماضي.

على مستوى الخطاب السياسي، يمكن ترجمة ما قاله باسيل في مقابلته الأخيرة وما ينوي قوله في الأيام القليلة المقبلة بأن هناك ثلاثة أفرقاء في البلد: فريق مع سلاح حزب الله، أينما كان وكيفما كان من دون قيد أو شرط؛ وفريق ضد هذا السلاح، أينما كان وكيفما كان ومن دون أي اعتبار للمصلحة الوطنية أو غيرها؛ وفريق ثالث، يرى التيار نفسه من ضمنه، يؤيّد هذا السلاح حين يكون الهدف من استخدامه حماية الثروات اللبنانية وضمان التنقيب عن الغاز وتحرير الأراضي اللبنانية أو حمايتها، سواء من الإسرائيليين أو من التكفيريين، لكنه يعارضه أو يعترض عليه حين يكون الهدف من استخدامه شيئاً آخر. وإذا كان التيار مدركاً لصعوبة ما يصفه بـ«التموضع العقلاني» في اللحظات العاطفية المفصلية، فإنه لن يقبل أن «يُدفش»، غصباً عنه، من الفريق الأول ليكون ضمن الفريق الثاني، ولا من الفريق الثاني ليكون ضمن الفريق الأول. وفي الاستحقاق الرئاسي، يقول باسيل عملياً ما مفاده أن ثمة ثلاثة أفرقاء: فريق لديه مرشح واحد يريد أن يقتنع الآخرون بانتخابه رئيساً؛ وفريق يريد انتخاب رئيس من دون حوار مع حزب الله وغصباً عنه وضده؛ وفريق ثالث يقول التيار إنه في صلبه، لا يريد انتخاب مرشح الحزب، لكن لا يريد انتخاب مرشح غصباً عن الحزب أو ضدّه أو بمعزل عن رأيه.

وما ينطبق على السلاح والرئاسة، بكل رمزيتهما وأهميتهما، ينطبق على بقية القضايا، من دون أن يغيب عن ذهن التيار، هنا، أنه حين أحكمت واشنطن حصارها على عهد الرئيس عون بسبب مواقفه السياسية من النازحين السوريين والدولة السورية وسلاح حزب الله، كان رأي الحزب أن التعامل بمرونة كما يفعل الرئيس نبيه بري كان ليكون أفضل. وحين عوقب باسيل أميركياً، كان موقف الحزب أنه يتفهم أن يفعل أصدقاؤه وحلفاؤه ما من شأنه تجنيبهم العقوبات، ما فُهم – ولا يزال – بأن باسيل لم يكن مضطرّاً إلى الوصول في علاقته بالأميركيين إلى حد القطيعة الكاملة، في وقت يتبيّن فيه لرئيس التيار أن الصمت الذي مارسه غيره يعود عليه اليوم بفوائد أكبر من المواقف الحاسمة والحازمة التي أخذها هو إبان الأزمة السورية، وأدت إلى نقمة خليجية هائلة عليه حتى من دول كانت صديقة جداً للرئيس عون كالكويت مثلاً.

بناءً على ذلك، يبني التيار تموضعاً جديداً أكثر هدوءاً لا يكون بموجبه ملَكياً أكثر من الملك. ثمة ثبات استراتيجيّ: هو مع الانفتاح الاقتصادي والسياسي على الشرق، شرط أن يريد الشرق ذلك ويظهر خطوات عملية تتجاوز ما يردده بعض الخبراء هنا وهناك عن أخبار لم تقدّم يوماً حيث يجب وكما يجب في الوزارات اللبنانية، كما تفعل جميع الدول المهتمة بالاستثمار في لبنان. وهو مع السلاح حين ترتبط السردية بحماية لبنان، وضدّ عزل أيّ مكوّن لبناني، سواء كان شيعياً أو سنّياً أو مسيحياً، حتى لو كان سيتّهم بالذمية والتبعية حين يرفض عزل المكوّن الشيعي، وسيتّهم بالطائفية حين يرفض تجاوز الشراكة. والشراكة ستمثل العنوان الرئيسي للتيار في المرحلة المقبلة، في مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية، إذ يأمل العودة إلى روحية تفاهم مار مخايل من جهة، وإلى تثبيت وعي مشترك مع بكركي والقوات اللبنانية والكتائب وغيرهم من جهة أخرى، بأن الشراكة قضية استراتيجية لا يجوز التفريط فيها أو تسهيل المسّ بها لمجرد الاختلاف بشأن موظف هنا أو موقف سياسي هناك. والمؤكّد أيضاً أن رئيس التيار لن يسير قدماً مع الموجة الانعزالية التي يقول إن لديها الحق في الشعور بالخيبة، لكن لا يمكنها في لحظة المصالحة الإيرانية – السعودية والسورية – الإماراتية وتبادل الرسائل الإيجابية بين واشنطن وطهران أن تدعو إلى الصدام، تماماً كما لا يمكن للتيار أن يدفع خلال عهد الرئيس عون ثمن التصادم السياسي الكبير بين الولايات المتحدة وإيران، ثم يدفع ثمن التفاهمات. والأكيد، في هذا السياق، أن باسيل يريد أن يقول عبر الورقة السياسية والمحطات الإعلامية المتتالية إنه يرأس تياراً يؤمن بالتفاهمات السياسية، ويرى – خلافاً لخصومه في الدوائر المسيحية – أن الحل يكمن في التفاهمات التي تؤمن استقراراً سياسياً واقتصادياً وازدهاراً، فيما لا تؤمّن الصدامات غير الحروب والحصار والتعطيل وتبادل التخريب، مع التشديد دائماً على أن شرط التفاهمات الأول هو الشراكة والاعتراف المتبادل بالحيثيات.

هذا التموضع السياسي الذي يفترض أن يظهره باسيل يثير ردود فعل سلبية هنا وهناك، لكنه يريح التيار بحسب تقدير باسيل، ويسمح له بالتقاط أنفاسه وتصالحه مع نفسه دون أيّ تفريط بخياراته السياسية الاستراتيجية. ويترافق هذا مع ارتياح أكبر للتيار على مستويَين إضافيَّين: أولاً، علاقات التيار الداخلية، سواء مع الرئيس نبيه بري أو مع النائب السابق وليد جنبلاط أو مع كتلة الاعتدال الوطني وعدّة نواب مستقلين؛ يتقدّمهم كل من فريد الياس الخازن ووليم طوق وعبد الرحمن البزري وفؤاد مخزومي وعدد مقبول من النواب التغييريين. وثانياً، علاقات التيار الخارجية الإقليمية التي تجاوزت المربع الإيراني – القطري – التركي – السوري باتجاه مصر للمرة الأولى والإمارات من جديد والسعودية، مع الإشارة إلى أن الأميركيين يقاطعون رئيس التيار، لكن ليس الرئيس ميشال عون ولا النواب والمسؤولين الحزبيين الذين أعادت السفارة وصل ما انقطع معهم على نحو شبه كامل قبل أكثر من عشر سنوات.