|ميسم رزق|
كانَ الأربعاء، 14 شباط، يوماً استثنائياً للمُستقبليّين. وكانَ، أيضاً، يوماً مُتناقضاً. بدأ بالحشود المتحمّسة للتوجه إلى الضريح للالتفاف حول الشيخ سعد الحريري، وانتهى بإعلان «الخيبة» بعدما أعلن أنه ليس عائداً الآن، وأن أوان هذا القرار لم يحن و«كل شي بوقتو».الأهم في كل المشهد الشعبي والسياسي والدبلوماسي الذي رافق زيارة الحريري، هو مقابلته الحصرية على قناة «العربية – الحدث». فـ«القصة» كلها قد تكون هنا. ومن هنا، واجب التساؤل: هل كانت هذه إشارة إلى شيء ما؟
للمرة الأولى، منذ اعتكافه العمل السياسي، يتحدّث الحريري بهذه الكثرة. يعطي تصريحات سياسية لأن «الاعتكاف لا يعني عدم قول الرأي». هكذا قال أمس، علماً أنه لزِم الصمت طوال الفترة الماضية. الممنوع من فعل السياسة أصبحَ مسموحاً له الحديث فيها فقط، وهذه خطوة أولى في طريق ستتضِح معالمه لاحقاً. وإلى أن يحين ذلك، يُمكن الحسم بأن زيارة الحريري لبيروت هذه المرة كانت لها وظيفة أدّاها «الشيخ» وفقَ المطلوب، وهي وفقَ الآتي:
أولاً، إحياء النبض السّني في لحظة حسّاسة ودقيقة في المنطقة. وهذا لم يكُن ليتأمّن من دون وجود الحريري الذي ثبت بالوقائع عدم قدرة أيّ من القيادات السّنية على ملء الفراغ الذي خلّفه، وأن ما من شخصية من بيروت أو الشمال أو الإقليم قادرة على استقطاب الآلاف إلى وسط بيروت. أُخرِج الحريري من «الصندوق» للقول إن للطائفة السنية في لبنان رأياً في قضايا المنطقة عامة وفي ما يخص لبنان تحديداً، وإن لها زعيماً متى اتُّخذ قرار بتحريكه سيكون جاهزاً.
ثانياً، قيل الكثير في تفسير الموقف السّني من عملية «طوفان الأقصى». وقيلَ أكثر في تفسير هذا الموقف من عمليات المقاومة في جنوب لبنان نُصرة لأهل غزة ومساندة للفلسطينيين. صحيح أن سنّة لبنان، في غالبيتهم، بدوا في الظاهر وكأنهم يجلسون في المقعد الخلفي لمشاهدة العدوان على غزة، لكنّ الموقف غير معدوم الأساس. صحيح أن مشكلتهم الكبيرة كانت في غياب القائد الذي يوجّه البوصلة، لكنّ القاعدة عبّرت عن انحيازها الكامل إلى جانب المقاومة الفلسطينية، وكانت صور أبو عبيدة (الناطق الرسمي باسم الجناح العسكري لحركة حماس) التي انتشرت في طريق الجديدة وعدد من المناطق وعلى وسائل التواصل الاجتماعي خير تعبير عن وجهة هذه القاعدة ودعمها للمقاومة ضد العدو الإسرائيلي. جيء بسعد الحريري، في هذه اللحظة بالذات، ليتحدث عن منطق الاعتدال في وجه منطق التطرف في المنطقة. والتطرف، من وجهة نظر محور الاعتدال في المنطقة (المناصر لسياسة الولايات المتحدة) تمثله حركات المقاومة ضد إسرائيل. وبالتالي، كانت الرسالة إلى الطائفة السّنية بعدم الخروج من عباءة هذا المحور.
ثالثاً، اختيار قناة «العربية ــ الحدث» (التي خصّها الحريري بمقابلة حصرية) يبيّن بما لا يبقي مجالاً للشك، أن هناك محاولة إحتواء سعودية لكل الحركة المفتعلة حول الزيارة. أصرت الرياض على أن يعلِن الحريري من إحدى وسائلها الإعلامية أن أوان العودة لم يحِن بعد، ما يعني أن لا قرار سعودياً بفكّ أسر الحريري السياسي.
إلا أن قراءة باردة في كل الإطلالة، توضِح أن ما حصل لا يُمكن أن يكون يتيماً من دون تبني خارجي. والسؤال من سمح للحريري بفعل ما فعله وقول ما قاله؟ وفي وجه من؟
المعلومات تتحدث عن غطاء أميركي – إماراتي للرجل، وهذا الغطاء هو من وفر الدعم المالي الذي أتاح تجميع الصورة بالشكل الذي خرجت به. فقد كان واضحاً الترحيب الأميركي، الذي عبرت عنه السفيرة الأميركية ليزا جونسون خلال لقائها به. وكان هناك تقصّد بإظهار الرعاية الأميركية له، وهو موجه للرياض أولاً، وهو ما قد يرتد سلباً على الحريري نفسه إذا ما قرأتها رسالة تحد لها.
أما للقوى السياسية، فكانت رسالة أخرى بعث بها الحريري تؤكد أن «عودته إن تقررت من ضمن ترتيبات اليوم التالي في غزة وحصة لبنان منها، فستكون وفقَ رسم بياني محدد وهو عدم مهادنة حزب الله في الداخل، كما حصل سابقاً».
في آخر تصريحاته قال الحريري: «إذا لمست أن سنّة لبنان يميلون نحو التطرف ساعتها أنا بتدخّل». وأضاف أن «رئيس تيار المردة سليمان فرنجية صديقي تماماً كما الوزير السابق جهاد أزعور». ومن الخطأ اعتبار أن الرجل لا يأتي بجديد، وأنه يتكلم لتثبيت مواقفه القديمة في أذهان المستمعين.
هذان الموقفان هما فاتحة لخريطة طريق مرسومة للرجل، وهو عبّر عنها: أحد بنودها، ما ذُكر سابقاً. والبنود الأخرى، مرتبطة بالملف السياسي وبأي تسوية رئاسية قد تأتي لاحقاً. ومضمونها أن الحريري لا يؤيد انتخاب سليمان فرنجية رئيساً (حالياً) لذا وضعه في الخانة نفسها مع الوزير جهاد أزعور.
ما حصل ليس صدفة. وليس ردّة فعل عاطفية في ذكرى عاطفية. بل ورقة ضغط جديدة، بأداة داخلية، هي سعد الحريري