| جورج علم |
يحتلّ التاسع من كانون الثاني المقبل مكانه في مسار الزمن، لكن من غير المؤكد ما إذا كان سيحتلّ مكانه في مسار لبنان.
لا يزال الإستحقاق الرئاسي تائهاً بين أدغال المواصفات، وهذه بدورها تائهة بين أدغال المصالح الخارجيّة المتناثرة على مساحة الوطن، والمؤثرة على فئوياته الداخليّة.
الأميركي لم يحسم خياراته بعد. كان هناك حواران، الأول أميركي ـ أميركي بين إدارة الرئيس جو بايدن وإدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب حول كيفيّة ملء الشغور الرئاسي، والمواصفات المطلوبة. والثاني، حوار فرنسي ـ أميركي حول احترام المهل، تحرير الإستحقاق من الإلتباسات المعطّلة. لكن ما جرى في سوريا كان أوسع مدى، وأبعد صدى، وكشف المنطقة بتضاريسها ونواميسها، وأكّد إمتدادها فوق كتف من الزلزال المدمّر. كانت البدايات في غزة، وقبل أن تخفّ ارتدادات السابع من أكتوبر، إنفجر بركان الجنوب، ولم تمض ساعات على تفاهم وقف إطلاق النار، حتى إنفجر بركان دمشق، وسارع الجميع إلى معاينة الإعصار والأضرار، ورصد التداعيات، وإحتساب التوقعات من إحتمال إستمرار العصف التدميري بإتجاه العراق، وبمحازاة إيران، وصولاً إلى اليمن، ومنها إلى البحر الأحمر.
لا يمكن الإلمام بتداعيات الزلزال الحالي، للتفكير بما ستكون عليه مواصفات الغد التالي. الرياح تصفر، والأمواج تتلاطم، والمفاجأت الصادمة تدفع الأمكنة ببشرها وحجرها نحو المجاهل المسكونة بالقلق العارم حول المستقبل والمصير.
ويحطّ موكب التاسع من كانون وسط مضارب الحيرة والتساؤلات. ساد صمت على ضفاف نهر السين في باريس إثر الكولسات التي عقدت بين الرئيسين إيمانويل ماكرون ودونالد ترمب على هامش إحتفالات “نوتردام دو باري”. كانت الخماسيّة العربيّة ـ الدوليّة تنتظر في بيروت وميضاً مُبشّراً من برج إيفل المكلّل بالأنوار المشّعة في هذه الأيام الأخيرة من هذا العام، لكنه لم يأتِ. أغلق قصر الإليزيه نوافذه، بإنتظار كلمة السر الأميركيّة، فيما الأميركي صامت، وتكتفي السفيرة في عوكر بتدوين المداولات، وإبداء بعض الملاحظات، من باب تأكيد الحضور، ورفع العتب.
لم تتحدث االـ”واشنطن بوست” مباشرة عن الإستحقاق الرئاسي في لبنان، لكنها إكتفت بسرد تحليل يحاكي الواقع والمستقبل بعد إنتصار الثورة في دمشق، يستخلص منه ملاحظات ثلاث:
الأولى ـ تناولت “المحفظة” التي يحتفظ بها آموس هوكشتاين، والتي دار بها على بيروت، وتل أبيب، وبعض عواصم “الدول المعنيّة بالملف اللبناني”، والتي تنطوي على محفوظات سريّة تتناول مستقبل الجنوب ما بعد فترة الـ60 يوماً، وما بعد تنفيذ القرار 1701 بكامل مندرجاته، والديناميّة الأمنيّة ـ الإقتصاديّة ـ الإجتماعيّة التي يفترض أن تسود على ضفتي الحدود، مع الإشارة إلى أنها ستشكّل أولويات في جدول أعمال الحكومة، بعد إنتخاب رئيس الجمهوريّة.
وتنطلق هذه الديناميّة بخطواتها العملانيّة، مع إنطلاق ورشة إعادة البناء والإعمار، وفق دفتر شروط لا يمكن التنصل من موجباته، وأبرزها ضمناً، مقترح يقول بإستحداث إستمارة تتضمن رزمة بنود أمنية، يتعهّد صاحب العقار المعني بالموافقة عليها، ليسمح له بإعادة بناء منزله، او القيام بأعمال الترميم.
الثانية ـ تكريس واقع جديد متحرّر من الثقافة السارية المفعول لغاية الآن. ثقافة مغايرة، خالية تماماً من وحدة الساحات، وتماسك المحور، وإعادة بناء ما تهدم من أبراج، وأنفاق، وحظائر صاروخيّة، ومرابض غير شرعيّة.
وترى، أن القرار 1701 واضح من حيث بنوده، وسرديّة مندرجاته. لكن هندسة تطبيقه تأخذ بعين الإعتبار مواصفات اليوم التالي الذي سيكون عليه الجنوب، وهي مواصفات متطابقة مع ما يرضى به الأميركي، والأممي، ويصرّ عليه الإسرائيلي تحت شعار “الأمن الموثوق لمواطني الشمال”.
الثالثة ـ تتناول المستقبل، والدور والوظيفة.
وتنطلق البنية التحتيّة لهذا المستقبل، من الدور الذي يضطلع به المجمّع الدبلوماسي الأميركي في عوكر، والذي يعتبر واحداً من أهم وأكبر السفارات الأميركيّة المنتشرة في العالم. وتستند هذه البنية إلى المرتكزات الدستوريّة والقانونيّة والأمنيّة والسياسيّة التي يفترض أن يقوم عليها لبنان، والذي يوفّر البيئة الصالحة المؤاتيّة للمجمّع كي يقوم بالوظائف المسندة إليه، إنطلاقاً من لبنان، نحو الشرق الأوسط الجديد، الذي يستحدث طبقاً للهندسة الأميركيّة ـ الإسرائيليّة.
بالطبع يدور كلام حول مواصفات الرئيس، لكن ليس من النوع المتداول في منتديات بيروت، بل من النوع المتطابق والدور الذي يرسم للبنان، والتي تريده إدارة الرئيس ترامب عضواً محوريّاً في “الصندوق الإبراهيمي”، نظراً للخبرات الطويلة التي أهّلت هذا اللبنان في يوم مضى، أن يكون رائداً محوريّاً في القطاع المالي ـ المصرفي ـ الخدماتي في الشرق الأوسط.
إن هذا الدور، وهذه الريادة، تتطلّب ـ وفق المنظار الأميركي ـ فريق عمل لبناني كفوء، متناغم، من رئيس للجمهوريّة، إلى رئيس للوزراء، إلى حكومة جامعة تضمّ أصحاب كفاءات، وأهل إختصاص، وتضطلع ببرنامج عمل يعيد لبنان الفاعل إلى خريطة الشرق الأوسط الجديد طبقاً للهندسة التي تنشط ورشتها حاليّاً من ضفاف غزّة، إلى ضفاف البحر الأحمر، مروراً بلبنان، وسوريا، والعراق، وإيران وصولاً إلى اليمن.
… ويبقى السؤال: ماذا يريد الرئيس دونالد ترامب من لبنان؟
الجواب واضح: قد تشرق شمس الإستحقاق في التاسع من كانون المقبل، وينطلق من ساحة النجمة، موكب فخامة الرئيس يحرّر قصر بعبدا من وطأة الفراغ… لكن إذا ما إستمرّت الغيوم الداكنة في سماء ساحة النجمة، فهذا يعني أن التاسع من كانون سيحتلّ مكانه في ذاكرة التاريخ، لكن لن يتمكّن في ذاكرة الإستحقاق في لبنان!
وإشارات سمير جعجع للترشح، لا تأتي من فراغ… وربما قد تتحوّل إلى حجر الزاوية… وزمن المفاجآت الصادمة.. هذا أوانه!