| علاء حسن |
يعلم القاصي والداني، أنه في وقت التفاوض على صدور قرار وقف العمليات العسكرية بين المقاومة والكيان الصهيوني العام 2006، تلقى “حزب الله” تطمينات من دوائر القرار المشاركة في صياغة القرار 1701، أن البند المتعلق بانسحاب المسلحين إلى شمال نهر الليطاني لا يكاد بنداً شكلياً، وأنه لن يتم إثارته ولا العمل على تطبيقه، وهو ما حصل بالفعل على أرض الواقع خلال سبعة عشر عاماً التي تلت حرب تموز، حيث لا القوات الدولية قامت بعمليات يمكن اعتبارها في سياق العمل على “إخراج المسلحين” (المقاومين) من جنوب الليطاني، ولا الدولة اللبنانية كان بمقدورها فعل ذلك، فضلاً عن انشغال النادي الدولي باستحقاقات متعددة جعلت هذا الأمر في أولوية متأخرة قياساً بعناوين أكثر إلحاحاً تشغلها الواحدة تلو الأخرى.
لكن، ما الذي جعل هذا النادي يُخرِج هذه الورقة في هذا التوقيت، ومن البوابة الفرنسية؟ وما هي الأسباب التي دعت وزير الحرب الصهيوني يوآف غالانت إلى إثارة الملف بالشكل الذي اعتبر تهديداً عسكرياً للبنان، وبشكل لا لبس فيه؟
لا شك أن إثارة هذا الموضوع مرتبط بشكل وثيق بالحرب الاسرائيلية على غزة، وبموقف المقاومة في لبنان من هذه الحرب، سياسياً وعسكرياً، الأمر الذي يفسر مدى امتعاض الكيان من إبقاء جبهة الشمال مشتعلة بالشكل الذي تعجز فيه عن ردع المقاومة عن القيام بما تقوم به من إسناد وإشغال، وإبعاد لأكثر من مائة ألف مستوطن عن منطقة الجليل، بما يشكل كل ذلك من عبء اقتصادي واجتماعي وسياسي على حكومة الكيان، وقدرتها على إدارة الصراع بالطريقة التي تضمن لها التفوق في الميدان، والردع في السياسة، وهو ما لم تستطع حكومة الاحتلال تحقيقه لغاية اليوم.
وإذا ما كانت إثارة موضوع القرار 1701 مطلباً صهيونياً بالدرجة الأولى، فإن تصريحات وزير الحرب الصهيوني يوآف غالانت حول العملية العسكرية في الجنوب اللبناني تتضمن هدفين رئيسيين:
الأول داخلي، حيث يسعى إلى شد عصب جيش الاحتلال من جهة، وتطمين سكان مستعمرات الشمال من جهة ثانية. ولا يخلو الأمر من طموح سياسي يسعى إليه، بعد انتهاء الحرب وخروج نتنياهو حكماً من العملية السياسية، فيما يمكن اعتبارها مجتمعةً تصريحات للاستهلاك الداخلي.
أما الهدف الثاني فيمكن اعتباره هدفاً تفاوضياً مع المقاومة، حيث توصلت دوائر القرار في النادي الدولي، الذي يدير الحرب على قطاع غزة بزعامة الولايات المتحدة، وبعد العديد من الرسائل التي أوصلتها للمقاومة وتلقت أجوبة على بعض منها، أنه من الأفضل خلق عقبة تفاوضية تسمح باكتساب المزيد من النقاط، بدل التفاوض على قواعد الاشتباك الحالية. وبعبارة أخرى، بدل التفاوض والمقاومة تقف على نقطة الصفر الحدودية، بدأوا بخطة تقليدية من حيث التهديدات والإغراءات، وفق مفهوم “العصا والجزرة”، لأجل البدء بسقف تفاوضي مرتفع، ومن ثم اكتساب العديد من النقاط، حتى وإن انخفض هذا السقف لاحقاً. لكن، وفي جميع الأحوال، يبقى أن السقف المنخفض لن يكون أقل انخفاضاً مما لو بدأت عملية التسوية وفق المعادلات الحالية، فق رأيهم.
لكن، هناك سؤال يطرح نفسه بقوة في معرض كل هذه الفوضى: ما الذي يمكن أن يحصل، في ظل موقف “حزب الله” المتجاهل لهذا المطلب في الوقت الراهن، حيث المعركة الحدودية دائرة، وهو ما يعني حكماً وجود مسلحين وأسلحة؟ وبالتالي أي كلام عن انسحاب هؤلاء يعني وقفاً لاطلاق النار، الأمر الذي ترفضه المقاومة في الوقت الذي لا تزال جبهة غزة مشتعلة.
في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى جملة من المؤشرات التي يمكن من خلالها استشراف ما يمكن أن يحصل في الآتي من الأيام.
أولى هذه المؤشرات هي تجاهل الحزب لهذه المطالب في الوقت الراهن، مما يعني أن أي عملية تسوية لن تبدأ فعلياً إلا بعد انتهاء العمليات العسكرية، والعمليات العسكرية لن تنتهي سوى بعد توقف العدوان على قطاع غزة. وهو ما يعني أن الحزب يعمل على سحب هذه الورقة من اليد الإسرائيلية التي ترتدي “القفاز” الفرنسي الناعم، وعليه ستبدأ المحادثات الجدية عند نقطة الصفر الحدودية.
المؤشر الثاني هو ما أشار إليه أحد ضباط المقاومة، في لقائه مع عدد من الإعلاميين المتخصصين في الشأن العسكري، من أن الاصطفاف العسكري الإسرائيلي، منذ عملية طوفان الأقصى ولغاية اليوم، هو اصطفاف دفاعي، وأن القوات الهجومية تتمركز في المناطق الخلفية ضمن خطط الهجوم المعاكس وليس الهجوم الابتدائي، الأمر الذي يوحي بأمرين: الأول، هو استمرار الخشية من قيام المقاومة بعمليات داخل منطقة الجليل، وليس العكس. والثاني، هو عدم نية جيش الاحتلال، لغاية اليوم، شن عمليات هجومية داخل الأراضي اللبنانية.
ويضيف الضابط في المقاومة أن الجيش الصهيوني يتمتع بمرونة عالية في التحول من جبهة لجبهة ثانية ومن وضعية قتالية إلى أخرى، إلا أن هذا الأمر لا يعني إطلاقاً أنه يتم بلمح البصر وخارج القواعد العسكرية والميدانية المتعارفة، ولما كانت تحركات الجيش الاسرائيلي مرصودة تماماً من قبل المقاومة، فإن هذا الأمر ـ لو حصل ـ لن يكون مفاجئاً لها، خصوصاً أن المقاومة لم تستخدم لغاية اليوم خططها وقدراتها الحربية الفعلية.
أما المؤشر الثالث، فهو مرتبط بموقف الأطراف الأخرى، فلقد أعلنت كل من الولايات المتحدة وإيران، مراراً، خلال الفترة الماضية، أنهما لا تريدان توسعة الصراع خارج النطاق الحالي، في محاولة منهما لحصر الأضرار ضمن نطاق محدود، تحسباً لتدحرج الأمور إلى مستوى لا يمكن السيطرة عليه في لحظة دولية غير مناسبة للتفجير.
لكن، في المقلب الآخر، هناك اعتبارات أخرى لا يمكن التغافل عنها، وهي أن الكيان الصهيوني يواجه حالياً معضلتين أساسيتين: تتمثل الأولى في عدم تحقيقه للأهداف المعلنة من قبله للعدوان على قطاع غزة. وتتمثّل الثانية في عدم تحمله استمرار تهجير مستوطني شمال فلسطين إلى ما لا نهاية. حتى وإن انتهت الحرب على غزة، وتوقفت العمليات العسكرية من قبل المقاومة في لبنان، يبقى التهديد بالنسبة لهم قائماً، وهذا أمر يجب إيجاد حل له. فبالنسبة للعقل الصهيوني، ومأزق نتنياهو حالياً، قد يعتبر أنه طالما أن الجبهات قد فتحت، وأن الجيش يخوض العمليات القتالية، وأنه طالما أن المجتمع الصهيوني حالياً يوافق على استمرار العمليات لإزالة التهديدات، وذلك وفقاً لاستطلاعات الرأي المجراة عندهم، فإنها فرصة لازالة التهديد، أو خلط الأوراق، تمهيداً لإعادة ترتيبها بطريقة مختلفة. وبعبارة أخرى، يوسع المهزوم دائرة النزاع باحثاً عن بارقة نصر تنجده.
لقد كانت التقديرات الاستخبارية الاسرائيلية تتحدث عن تعاظم قدرة المقاومة، وضرورة منعها، وإعادتها إلى مستوى مقبول، على غرار ما كانت تقوم به في قطاع غزة، ضمن سياسة “جز العشب” التي اعتمدتها خلال العقد المنصرم، لكن قدرة الردع، والتقاطعات الإقليمية، منعت الكيان من هذا الفعل، وهو يجد فرصته الآن للقيام بالأمر، خصوصاً في ظل التقديرات الأوروبية القائلة بأن “حزب الله” هو “مردوع” في هذه المرحلة، وبطبيعة الحال هم يعلمون جيداً أن تطبيق القرار 1701 لا يتعلق بانسحاب المقاتلين من جنوب الليطاني، لكونهم أبناء الأرض وسكانها، وبالتالي لا يمكن تحقيق هذا المطلب، بل وإن كانوا من أبناء مناطق أخرى، فلا أحد في العالم يستطيع منعهم من الذهاب إلى المناطق الحدودية. لذلك فإن الحديث هو عن الأسلحة الثقيلة. وفي هذه النقطة أيضاً، يعلمون أن الجيوش تضع الأسلحة الثقيلة في المناطق الخلفية وليس في الخطوط الأمامية.
من هنا، فإن الحديث عن القرار 1701 له أبعاد وغايات أخرى، وإذا كانوا يعتقدون أن الحزب “مردوع”، أو أن عنصر المباغتة لا يزال فاعلاً، فليقرأوا 5 أيار 2008 ويبنوا حساباتهم وفق هذه العقلية.