بيروت.. خط فاصل ما بين الأميركي والإيراني؟

| جورج علم |

حرب الإستنزاف مكلفة، لكنها مستمرّة…

إنتهى الشهر الأول، يؤرّخ المجازر، وأعداد الضحايا، وصور المقابر الجماعية، من دون أفق سياسي، فقط مجرّد طفح كلام هنا، وهناك، وهنالك، عن هدنة إنسانيّة، وممرّ آمن، ومساعدات إغاثة، وشاش، ودواء أحمر… لكن ليس من بنية تحتيّة لسياسة واضحة وصلبة يبنى عليها، وتُشقّع فوقها مداميك متراصة لبناء عمارة التسوية، أو هدنة طويلة الأمد.

عندما أقرّ الكونغرس الأميركي على عجل هبة الـ14 مليار دولار دعماً “لإسرائيل”، كان ملزماً ـ كي لا يقال مرغماً ـ على فعل ذلك بأكثريتيه الديمقراطيّة والجمهوريّة، إنطلاقاً من اعتبارات “مصلحيّة” لكسب ودّ “اللوبي” اليهودي الفاعل والمؤثر في الحياة السياسيّة والإقتصاديّة الأميركيّة، وتنفيذاً لإتفاقيات تحالفيّة، تقضي بتوفير كافة مستلزمات الدعم دفاعاً عن أمن “إسرائيل”، و”حقها في الوجود، والعيش بسلام”!

وأفضى النقاش يومها إلى الفصل بين ما هو مقرّر لـ”إسرائيل”، وما هو لأوكرانيا من مبلغ الـ105 مليارات دولار، وحصل اعتراض من نواب ديمقراطييّن وجمهوريّين حول الهبات الماليّة والعسكريّة واللوجستيّة التي قدّمت، ولا تزال، إلى كييف، من دون أن تحدث أي تغيير في ميزان القوى لمصلحة أوكرنيا.

ورافق التوافق على الـ14 مليار دولار، ملاحظات، أولها أن المبلغ، على أهميته، هو مجرد “دفعة أولى على الحساب”. وأن جرعات الدعم ستأتي تباعاً طبقاً لمسار التطورات. وأن الحرب طويلة، ومن مصلحة الولايات المتحدة أن تكون كذلك، وتتحوّل حرب استنزاف لإضعاف طاقات الدول والتنظيمات المعارضة لمسار السلام في الشرق الأوسط، وتدعيماً لمحاولات التطبيع بين “إسرائيل” والدول الخليجيّة.

وما يبنى عليه، أن وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن، وفقا لما هو متداول في كواليس دبلوماسيّة، أثار نقاطاً حسّاسة خلال جولته الأخيرة على بعض عواصم دول المنطقة تحت شعار “الهدنة الإنسانيّة في غزّة، ومستلزماتها”. شدّد في بند أول على الدول العربيّة المقتدرة اقتصاديّاً، ودورها الأساسي والمحوري في بناء السلام في الشرق الأوسط، وتحديداً في هذه البقعة الإستراتيجيّة، من خلال مرحلة ما بعد الحرب، والدعم المالي الذي يفترض أن تقدّمه لإعادة إعمار ما تهدم، وتمويل “ورش السلام” التي ستنشط على مختلف الصعد السياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والتنموية، لإنجاح مساعي التهدئة، ووضع ما يتم التوافق بشأنه من قرارات موضع التنفيذ. وأكد أن الولايات المتحدة جاهزة لتحقيق مشروع السلام الشامل، لكن لن تكون وحدها، بل بالتعاون مع شركائها في الشرق الأوسط، والخليج تحديداً.

والنقطة الثانية التي كانت مثار اهتمامه، أن أعمال الإغاثة في قطاع غزّة لا يمكن أن تقتصر على شحنات الأغذيّة، والأدويّة، وبعض المستلزمات الضروريّة “هذا ممكن ومطلوب في المرحلة الراهنة، لكن عندما يصمت المدفع، ويسري وقف إطلاق النار، فإن المطلوب أن تكون الدول العربيّة، وخصوصاً الخليجية، في الطليعة لدعم خريطة طريق ما بعد الحرب، حول ورشة الإعمار، والمشاريع الحيويّة التي تتطلبها عملية إعادة بناء الثقة بين دول المنطقة”.

النقطة الثالثة التي أكد عليها في جولته، هي مشروع التطبيع.

إنه ـ من وجهة نظره ـ صامد، ولم تقدم أي دولة عربيّة على اعتراضه، أو إعادة النظر به، على الرغم من ضراوة الخراب والدمار الذي حلّ بالقطاع. وإنه مستقر راهناً بإنتظار جلاء غبار المعارك، والتوصل إلى وقف نهائي لإطلاق النار، ومن ثم إلى تسوية شاملة.

وكانت الرياض قد أكدت عبر مصدر رسمي أن “مشروع الإتفاق بين إسرائيل والمملكة العربيّة السعوديّة لا يزال قائماً، وهو بعهدة الولايات المتحدة”.

ولم يتحدث آموس هوكشتاين خلال زيارته إلى بيروت عن مُهَل “لوقف الحرب”. أوحى خلال محادثاته مع بعض من التقاهم، عن مسارين متوازيّن، لن يلتقيا قريباً، ولكن لا بدّ من محطة التقاء في نهاية المطاف. كان يتحدث عن المسار العسكري الذي يوازيه مسار دبلوماسي، وحتمية الالتقاء في نهاية المطاف بمسار يستطيع أن يؤمن الفرص المؤاتية لفرض هدنة تسمح لكل الأطراف بالدخول إلى القاعة، والتحلّق حول الطاولة، والبحث بهدوء في كلّ الملفات الساخنة فوقها.

إن حرب الاستنزاف، من وجهة نظره، قد تكون مرفوضة نظراً لكلفتها العالية في البشر والحجر والإقتصاد، ولكنها إحدى الخيارات العملانيّة لاستنزاف كل القوى، خصوصاً المتورطة مباشرة، وإرغامها على وقف إطلاق النار بهدف توفير الظروف المؤاتية للمسار الدبلوماسي كي ينجح في بناء السلام.

حاول البعض أن يصارحه القول بان الوضع اللبناني الداخلي الهش لا يستطيع أن يتحمل تبعات الإنتظار، والتداعيات التي قد تتركها حروب إستنزاف طويلة على أوضاعه المنهارة والكارثيّة. كان جوابه دبلوماسيّاً مترافقاً مع ابتسامة معبّرة “وماذا تفعلون كمسؤولين لوقف الإنهيار، وملء الفراغ؟!”.

يعرف ـ ولا تخونه المعرفة ـ أن بيروت تستقبله بشغف “الزائر الاستثنائي” لقراءة الفنجان اللبناني، ومعرفة ما تخبئه “الأقدار” لحاضر هذا البلد ومستقبله، خصوصاً إذا ما طال أمد الحرب. ويعرف أكثر أن هناك شخصية أخرى تحظى أيضا بقدر وافر من اهتمام بيروت، هي وزير الخارجيّة الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، عندما يزورها تكتنز “مانشيتات” الصحف اللبنانية، وأعمدة الأخبار، والتحليلات…

بيروت، في زمن “طوفان الأقصى”، خط فاصل ما بين الأميركي هوكشتاين، والإيراني عبد اللهيان.. ربما تحوّلها حروب الاستنزاف إلى محطة التقاء… وتلاقي!