| جورج علم |
بندقيتان نهشتا الصيغة، قوّضتا النظام، وفتكتا بالكيان: الأولى فلسطينيّة، والثانيّة “مجنّسة”. تلتقيان تحت يافطة فلسطين، وترفعان الشعارات عينها، القضيّة الفلسطينيّة. محاربة العدو الإسرائيلي. تحرير الأرض. إسترجاع الحقوق المغتصبة… وتفترقان لتحقيق أغراض، وتنفيذ مشاريع جهويّة، إقليميّة ـ دوليّة، انطلاقا من الساحة المباحة المستباحة.
كلّفت الأولى لبنان، اللبنانييّن أنهاراً من الدماء، والدموع، وأهدتهم بعد سنوات طوال من القهر، اتفاق الطائف الذي انتزع وزنات وازنة من رصيد المسيحيّين. فيما كلّفت الثانية ـ ولا تزال ـ لبنان واللبنانيّين شرخاً عمودياً بين نظرتين، ونظريّتين، وفلسفتين تتعمّقان يوما بعد يوم، وتقضيان على ما تبقى من مقومات وطن، ومؤسسات، وجوامع مشتركة.
تستحضر الأولى الحرب الأهليّة. ما يجري في مخيّم عين الحلوّة يبقى مزنّراً بعلامات استفهام. المتقاتلون يعرفون. أصحاب المتاريس المتقابلة مطّلعون على المخطط، يملكون التعليمة، والإحداثيّة، والتوجّه، والهدف. لا شيء إسمه الصدفة، أو الدعسة الناقصة، أو الحادثة البريئة الـ”بنت ساعتها”. بل هناك مخطط مرسوم، وهدف مكتوم. والمحيطون بالمسلحين من كلّ جانب يعرفون، ويتجاهلون، كونهم متورطين، أو مستفيدين في حال نجح المسار، وحقّق المخطط أهدافه.
ما هو محسوم لغاية الآن، أن طريق فلسطين لا تمرّ بعين الحلوة، وما يجري بالحلوة لا يخدم فلسطين، ولا علاقة له بالقضيّة، بل هو أبعد ما يكون عن بابها، ومحرابها، ومرتبط ارتباطاً وثيقاً بمخططات تعبر كقطار مصفّح فوق جسر القضيّة، ليحقق أهدافاً، ومطامح، ومطامع جهويّة على علاقة بالهندسات الحديثة للشرق الأوسط الجديد، وتوازناته المستقبليّة.
وما هو متداول، أن الاقتتال يرمي إلى تحقيق مجموعة متكاملة من المآرب. تغيير الهويّة السياسيّة، والأمنيّة للمخيّم. تحويل المخيمات إلى لا مركزيات فلسطينيّة سياسيّة، أمنيّة، إداريّة، ماليّة، اقتصاديّة، داخل الأراضي اللبنانيّة، مستقلّة استقلالاً ذاتيّاً صافياً عن الدولة ومؤسساتها الشرعيّة الناظمة. وطي آخر صفحة من كتاب “حق العودة”، والإبقاء فقط على حبل الصرّة مع الضفة الغربيّة، وقطاع غزّة.
إن البندقيّة الفلسطينيّة في عين الحلوة ليست مصوّبة بإتجاه العدو الإسرائيلي، بل باتجاه “عدو” آخر، وإن رصاصاتها لا تطال أحياء حيفا، ويافا، وتل أبيب، بل مواقع الجيش اللبناني، والمارة من الناس الطيّبين المضيافين، والأحياء السكنيّة، والمنازل المأهولة. وهذا ما يعيد إلى الأذهان صور الممارسات التي سبقت 13 نيسان 1975، وهيأت ظروفها، وإن العناوين المتداولة اليوم أبعد ما تكون عن أجراس العودة، وتراجيعها في الذاكرة الوطنيّة الفلسطينيّة، إنها تعكس الإصرار المستمر، منذ ربيع الـ75، والهادف إلى جعل الساحة منصّة، واللجوء إلى ديمومة، والمخيم إلى قلعة محصّنة، مدجّجة، مشرّعة الأبواب أمام كل عاشق ومشتاق!
أمّا البندقيّة “المجنّسة”، فلها، كما عليها، ولا مجال هنا للدخول في أفعال التفضيل والتبجيل، أو التعليل والتضليل. العناوين معروفة. الشعارات أيضاً. والأهداف والمرامي. ولا بدّ من التوقف عند “الشكليات” الطافية على السطح، والعميقة الأبعاد.
أولاً: إنها، كما البندقيّة الفلسطينيّة، ليست موضع قبول وترحيب من جميع اللبنانييّن، بل موضع رفض، وانتقاد، وتشكيك. ولتكن الصراحة فيصلاً، كما الأولى أحدثت شرخاً وطنيّاً عميقاً في صفوف اللبنانيّين، كذلك الثانيّة، وربما على كثير من النفور.
ثانياً: كما الأولى حكر على الهويّة والقضيّة، وتحمل عنوان البندقيّة الفلسطينيّة، كذلك الثانيّة حكر على جماعة تنتسب إلى طائفة واحدة، وعقيدة واحدة، ومرجعيّة واحدة، وأهداف واحدة مشتركة، وهذا ما تسبّب بازدواجيّة الولاء، وأمام ازدواجيّة بهذا القدر من الخطورة، يصبح الخلل كبيراً، وفاضحاً، في الميزان الوطني بين كفتين غير متساويتين – متعادلتين، والتلاعب في اعتدال الميزان، تلاعب بمرتكزات الكيان.
ثالثاً: إن الاستباح، لا هو إصلاح، ولا صلاح. استباحت البندقيّة الفلسطينيّة يوماً الكرامات، والمعنويات، والمؤسسات، والمقدسات، ونصّب “الأخ القائد” حاكماً فعليّاً، لا يجارى، ولا يُردّ له طلب “كرمى لعيون القضيّة الفلسطينيّة”، لكن عامل الوقت كشف المستور فلا القضيّة تحقّقت، ولا الثورة انتصرت، ولا لبنان برأ من كلومه العميقة، وجراحه الداملة، فضلاً عن الشلل الذي أصاب عموده الفقري.
كثيرون في لبنان لا يريدون أن يذكّرهم مخيم عين الحلوة بذلك الماضي الأسود. السوابق جنازة نحو قبر محتوم، ومن المحظور إعادة نبش القبور.
أما السلاح الآخر، فله خطاب آخر. ومن المعيب الحديث عن استباح بقوّة السلاح. هناك إنجازات وطنيّة قد حققها في الحديقة الإقليميّة، لكن الموضوعية تقضي بقراءة الواقع اللبناني كما هو عليه الآن، وهل من المعقول والمقبول بعد طول هذه الفراغات، وما سببته من إنهيارات… الدعوة إلى الحوار، والبندقيّة على الطاولة تدير الجلسة؟!
يأخذ أصحاب الدعوة على الفريق الآخر بأنه رافض، لا يلبي، وإنه فاقد القرار ومرتهن للخارج. لكن هل الارتهان حكر على فريق دون الآخر؟ أم أصبح وجهة نظر لدى البعض، وعلى قاعدة “ما يحقّ لنا، لا يحقّ لكم”؟! ثم كيف يكون الحوار عادلاً، منصفاً، هادفاً، ومنقذاً، في ظلّ الخلل الكبير بين دفتي الميزان الوطني، وازدواجيّة الولاء، التي تضمر ازدواجيّة الأهداف والمرامي المناطة بالبندقيّة المستوردة التي تلقمها أيدٍ لبنانيّة، وتوظّفها لتحقيق أغراض جهويّة، تحت مظلة وارفة بالشعارات الوطنيّة.
والمؤسف أن الحوار الممنوع، أو المعطّل، يفتح سجالاً من نوع آخر حول الفدرلة، واللامركزيّة الموسّعة، وقد استبقها عنوان استفزازي يقول: “لنا لبناننا، ولكم لبنانكم”!
هل بلغ السيل الزبى؟ بالتأكيد لا. لكن، وبالتأكيد أن بندقيتين داخل الوطن، قد زعزعتا المرتكزات تحت شعار “كلنا يعمل في سبيل الوطن”.