| جورج علم |
يشكو الحوار من مرض نقص المناعة. إنه بحاجة إلى “فيتامين” دولار “فريش”. وعندما تتوافر الحقائب المحشوّة، يلتمّ الشمل، وتمتلئ الكراسي، ويلتفّ الجميع حول الطاولة… قد تعلو الصيحات، وتحتدم النقاشات، لكن سرعان ما تتلوّن بالنكات و”الفرفشات”، قبل أن يتصاعد الدخان الأبيض إيذانا بولادة التسويّة، ليختتم الكرنفال بمشهديّة تبويس اللحى.
نادٍ عتيق، عريق، شبه مقفل. غالبيّة وجوه أعضائه معروفة، حسباً ونسباً. معظمهم ورثة امتيازات، طائفيّة، عائليّة، فئويّة، مناطقيّة، مع حصانات مطلقة أقوى من تلك التي يتمتع بها الذهب الفدرالي في الولايات المتحدة.
وجاهة. كلمة مسموعة. ورأي لا يجارى، ومنازل، وعقارات، وأسهم، وأموال، وشركات في الخارج، وعيش مترف في الداخل، وفي المحيط جماعات مستنفرة، غب الطلب، لحماية الزعيم رمز الطائفة، وقائدها، والضارب بسيفها.
أمام هذه النماذج، تبدو مشكلة الحوار أخلاقيّة بإمتياز. والدليل أن الزعيم لم يفقد أمواله في المصارف، في حين أن سائر المودعين، حتى من أهل البطانة، قد نُكبوا. والزعيم لا يعاني من مشكلة على هذا الصعيد، يستطيع الحصول على ما يشاء، ومتى يشاء، من دون همّ، أو “وجع رأس”، في حين أن الجماعة تعاني، وهي قلقة فعلاً على حاضرها، ومستقبلها. والزعيم لا يشغل باله بتأمين التيار الكهربائي. الإنارة مؤمنة. والقصر وهّاج، في حين أن العتمة على مقدار محبته، وتفانيه، تعمّ البلاد والعباد. يستطيع الزعيم دخول مستشفى الخمس نجوم، ساعة يشاء. يستطيع الحصول على علبة الدواء ساعة يريد، وبمنتهى السرعة، في حين أن معظم الأتباع في ضياع. بإمكانه أن يوفّر المقعد الدراسي لأولاده في أرقى المدارس والجامعات، فيما الغالبيّة تواجه الحرمان، وتعاني من غزوة الأميّة، وتعاظم ثقافة التوحّش.
هذا النادي المتحكّم برقاب العباد والبلاد، أمام معضلتين: الأولى، أن ما يلمع عنده ليس ذهباً، بل مجرّد تنك، وقد اكتشفت معدنه مختبرات الدول الشقيقة، والصديقة، وأغدقت عليه ألقاب الفساد، حتى أن البعض هدّد بفرض عقوبات، وفرض عيّنات منها، فيما البعض الآخر رفض منح تاشيرات لطالبيها، وأجمع الجميع على ضرورة تحقيق إصلاحات جوهريّة، وربط تقديم المساعدات بصدقيّة إنجازها.
المعضلة الثانية، الأخطر، تتمثّل بسلوك الجماعة. صحيح أن البيك لا يزال بيكاً، والزعيم زعيماً، ولكن المؤشر الإقتصادي ـ الإجتماعي يعكس تحوّلات بدأت تثير القلق لدى أعضاء النادي، البطانة تواجه الجوع، والعين الجائعة يصيبها الحَوَل، والحَوَل يفقد صاحبه القدرة على التمييز، وقد تتساوى عنده الأنوار والظلم، وهذا ما يقلق أصحاب الوجاهة. حتى القناعة أصبحت راسخة لدى الغالبيّة بأن هذا النادي برجالاته، هو المسؤول عمّا آلت اليه أحوال البلاد من انهيار. والخطر الوجودي يدقّ الأبواب، جنى العمر تبخّر، البطالة تتفاقم، الشباب يهاجر، نسبة الفقر تجاوزت الخطوط الحمر، تكاليف المعيشة ما بين تأمين الطاقة، والتيار، وحبّة الدواء، والسلّة الغذائيّة تخطّت كل الإمكانات، ولم يعد هناك من وسط، من توازن إجتماعي، بل غالبية ساحقة قابعة عند حدود الفاقة.
الإنفصام يقلق الزعيم، الثقة تنهار، والمصداقيّة تعاني من خلل. صحيح أن المواقف الشعبويّة لها أزلامها وجمهورها، وصحيح أن الحصانة الطائفيّة لا تزال تؤمن مظلّة واقية، لكن الجوع كافر، والكافر يستسهل ارتكاب الكبائر. مضى زمن التقليد، والتقاليد، والتقليديّون، وزعامات الطربوش والطرطور، إنه زمن الكومبيوتر، وزمن الشباب الذي يحيك عباءة حاضره ومستقبله بخيوط الكترونيّة لا تعرف نول القبو العتيق، ولا مغزال الختيارة في عزّ برد كانون. شباب لا يمتّ بصلة إلى التقليد، ولا إلى الزعامات التقليديّة، بيئته مختلفة، طموحاته واسعة، هندساته عصريّة، وفهمه لمجريات الأمور تقلق “جماعة النادي”.
يعرف أصحاب الألقاب بأن الزعامة وراثة، والأزمة متوارثة. إنهم أصحاب النفوذ أبا عن جد، والممسكون بالمقاليد منذ فجر الإستقلال حتى واقع الإنحلال، لهم الكلمة، والقرار، وبالتالي لم يعد الزمن زمن عفا الله عمّا مضى، لأن ما مضى هو وطن، وكيان، ونظام، وقواعد عيش، والباقي راهناً، قلق عارم حول المستقبل، والمصير.
ويعرف أصحاب الألقاب بأن الطحين طحينهم، والعجنة عجنتهم، والخبز خبزهم، والمأزق مأزقهم. لم تأتِ النكبات أرتالاً وزرافات، بل ولدت في أحضانهم، وتحت أبصارهم، وبالتالي لا بدّ من مسؤول. من المسؤول؟ ومن يتحمّل المسؤوليّة؟ يحاولون أن يحمّلوها للطوائف، للشعوب الخاضعة الخانعة، للجماعة، للحاشية، للبطانة، ولكن القدرة على الاحتمال تساوي صفراً، والطلاق يتعمّق ما بين جيل اليوم، وحكّام اليوم.
ويعرف أصحاب الألقاب بأن الكذبة لم تعد تنطلي على “راجح”. “راجح” أصبح حقيقة، يعرف الكذبة وأصحابها، ويعرف أن الفراغ ليس في قصر بعبدا فحسب، بل في قصر النادي، وعند أعضائه. الفراغ هم أربابه، والدعوة إلى الحوار مشبوهة كونها مربعة الأضلع.
الأول: إنهم في معركة مصيريّة مع الداخل والخارج لتأكيد زعامتهم، وأهليتهم بالزعامة، رغم الفساد.
الثاني: التبروء من المسؤوليّة، وإلقائها على عاتق المواطنين، والتذرّع بالمؤامرة، والظروف القاهرة، والضغوط الخارجيّة.
الثالث: الرقص على أنغام الإزدواجيّة الدوليّة. من جهة يؤنب الخارج غالبية الوجوه الفاسدة، ويهدّد بالعقوبات. ومن جهة أخرى يتواصل معها، ويكثّف مشاوراته لكي تجتمع، وتتحاور، وتجد مخرجا للمأزق. إزدواجيّة عمّقت جذور المعاناة.
الرابع: عرف أصحاب النادي بأن التغيير من الداخل شبه معدوم، والتغيير من الخارج شبه مأزوم، لذلك ربط تجاوبه مع الدعوة إلى الحوار بشرطين: توافر البيئة الخارجيّة ـ الداخليّة المؤاتية للحوار، وتوافر شروطه للنجاح.
وأبرز ما في هذه الشروط توافر المال في سلال المكافآت… ورنوّا الفلوس على بلاط ضريحه…