قبل شهر من الذكرى الخمسين لحرب تشرين 1973، والتي يطلق عليها العدو الإسرائيلي تسمية “يوم الغفران”، نشر أرشيف كيان الاحتلال الإسرائيلي مجموعة شاملة من آلاف الوثائق والصور والتسجيلات ومقاطع الفيديو، مما يوفر نظرة متعمقة على الطريقة التي تم بها التعامل مع الحرب والفشل الاستخباراتي الكبير الذي سبقها.
في حين أنه تم رفع السرية عن الكثير من البروتوكولات والوثائق المتعلقة بعملية صنع القرارات قبل وخلال حرب 1973 على مدار السنين، فلقد أصبحت مجموعة المواد بأكملها متاحة للجمهور، باستثناء عدد قليل من الملفات التي لا تزال سرية.
وشملت الوثائق مراسلات مشبوهة لملك عربي إلى غولدا مائير رئيسة وزراء العدو الإسرائيلي حينذاك يحذرها من هجوم مصري وسوري محتمل بالإضافة لأسمائه الرمزية التي كانت تستخدمها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حتى لا يتم الكشف عن هويته. لكن هويته كانت كشفت في وقت سابق في أكثر من مناسبة وكتاب تأريخي لتلك المرحلة، وهو كان الملك الأردني حسين بن عبد الله، حيث ذكرت الروايات أنه التقى غولدا مئير على عجل وأبلغها باستعداد سوريا ومصر لشن الهجوم.
وكشفت البروتوكولات أن رئيس “الموساد” تسفي زامير، ذهب بشكل عاجل إلى لندن للقاء “صديقه”، ويبدو أن هذا الشخص كان العميل “أشرف مروان”، الذي كان مقرباً من الرئيس المصري أنور السادات.
يعرض الآن موقع إنترنت مخصص – حالياً باللغة العبرية فقط – حوالي 3500 ملف أرشيف تحتوي على مئات الآلاف من الصفحات، و1400 وثيقة ورقية أصلية، و1000 صورة، و750 تسجيلا، و150 دقيقة من المداولات الحكومية، وثمانية مقاطع فيديو. استغرق تحميل المواد عامين ونصف من العمل.
توفر بعض الوثائق سجلات للمداولات التي جرت بين رئيسة وزراء العدو آنذاك غولدا مئير وقادة الأمن في الأيام والساعات التي سبقت شن سوريا ومصر الحرب المنسقة في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1973، بينما كان العدو الإسرائيلي يحيي ما تسميه “يوم الغفران”.
لم يتوقع العدو الإسرائيلي تنفيذ الهجوم ضدها على الرغم من العلامات الصريحة التي أشارت إلى أن الجيشين يستعدان للغزو، معتقدة أنه في أعقاب هزيمة مصر قبل ست سنوات في حرب “الأيام الستة”، فإن القاهرة لن تهاجم إلا إذا اكتسبت أولا القدرة على شل سلاح الجو الإسرائيلي.
قبل يوم من بدء الحرب، قال رئيس المخابرات العسكرية إيلي زعيرا لغولدا مئير إن التقييم السائد هو أن “جاهزية إسرائيل تنبع بشكل أساسي من الخوف منا… أعتقد أنهم ليسوا على وشك الهجوم، ليس لدينا دليل. من الناحية التقنية، هم قادرون على التحرك. أفترض أنهم إذا كانوا على وشك الهجوم، فسنحصل على مؤشرات أفضل”.
وفي تقييم آخر بعد ساعات، كرر زعيرا ورئيس أركان جيش العدو الإسرائيلي دافيد إليعيزر موقفهما القائل بأن سوريا ومصر تخططان على الأرجح لعدوان محدود أو حتى مجرد نشر قوات دفاعية.
وأضاف إليعزر: “لا بد لي من القول، لا يوجد لنا دليل كاف على أنهم لا ينوون الهجوم. ليس لدينا مؤشرات قاطعة على أنهم يريدون الهجوم، لكن لا أستطيع أن أقول بناء على المعلومات أنهم لا يستعدون”.
في صباح اليوم التالي في الساعة 7:30 صباحا – قبل 6.5 ساعات من بدء الحرب – قرأ السكرتير العسكري لمئير برقية ليلية لرئيسة الوزراء من رئيس “الموساد” تسفي زمير، يشير فيها إلى أن الحرب كانت مسألة ساعات.
ثم ركزت المناقشة على ما إذا كان ينبغي شن ضربة استباقية، كما فعلت “اسرائيل” في حرب عام 1967 قبل أن تتمكن الجيوش العربية من تنفيذ خطة هجومها.
لكن وزير الدفاع موشيه ديان قال: “لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بتوجيه ضربة استباقية هذه المرة، من منظور دبلوماسي. في الوضع الحالي، حتى قبل خمس دقائق أمر مستحيل”.
ووافقته مئير الرأي وقالت إن “ضربة استباقية هي أمر مغر للغاية، ولكن نحن لسنا في عام 1968. هذه المرة، العالم يكشف عن وجهه القبيح. لن يصدقوننا”.
سؤال آخر طُرح هو ما إذا كان ينبغي تسريب أن “إسرائيل” كانت على دراية بالهجوم الوشيك من أجل منع حدوثه.
وقال الوزير يسرائيل غاليلي، الذي لا تزال الجملة التالية التي قالها سرية، إن “مصدر تسفيكا [زمير] يقول إن بالإمكان منع الحرب من خلال تسريب [المعلومات]. تسفيكا يقترح القيام بذلك”.
وأعرب الوزير يغال ألون عن تأييده لتسريب دراية “إسرائيل” بمخطط الهجوم لوسائل الإعلام قبل جلسة لمجلس الوزراء كان من المقرر عقدها في ظهر اليوم نفسه. لكن مئير أيدت فقط تسريب المعلومات للدبلوماسيين الأجانب، وانتهى بها الأمر بإطلاع السفير الأميركي كينيث كيتنغ على المعلومات بعد أن قال ديان: “ينبغي علينا السير بحذر، حتى لا تكون هناك حالة من الذعر”.
وطلبت مئير من كيتنغ خلال لقائهما نقل رسالة إلى مصر مفادها “ليس لدينا شك في أننا سننتصر، ولكننا نريد أن نعلن أننا لا نخطط لهجوم، ولكننا بالطبع مستعدون لصد هجومهم”.
وعندما سأل كيتنغ ما إذا كانت “إسرائيل” ستضرب بشكل استباقي، أجابت مئير بأنها لن تفعل ذلك، “على الرغم من أن ذلك كان سيجعل الأمر أسهل بكثير بالنسبة لنا”.
بعد يوم من وقوع الهجوم – وهو ما فاجأ “إسرائيل” لأنه حدث في وقت أبكر مما كان متوقعاً – اعترف ديان لمئير وألون بأن تقييماته كانت خاطئة.
وقال: “كان لدينا تقييم يستند إلى الحرب السابقة، وكان غير صحيح. لقد كان لدينا ولآخرين تقييمات خاطئة حول ما سيحدث أثناء محاولة عبور قناة السويس”.
بعد أيام فقط، بعد أن اقتنعت واشنطن بأن إسرائيل لم تكن هي التي بدأت الحرب، قامت الولايات المتحدة بتوفير الأسلحة، حيث قالت مئير: “هناك قرار من حيث المبدأ لـ (لرئيس الأمريكي ريتشارد) نيكسون بشأن (الطائرات الحربية) الفانتوم. الآن هناك فقط مسألة تنفيذ الأمر. يبحث (وزير الخارجية الأميركي هنري) كيسنجر عن طريقة لنقلها جوا”.
وتم توثيق البروتوكولات في المذكرات الشخصية المكتوبة بخط اليد لإيلي مزراحي، مدير ديوان رئيسة الوزراء آنذاك، والتي نُشرت بعض الأجزاء منها سابقاً.
وفقا للأرشيف، فإن المواد المنشورة حديثاً “توثق الأحداث في الوقت الفعلي في جميع المجالات: السياسية والعسكرية والدولية والعامة والمدنية”.
وتشمل هذه المواد “مداولات الحكومة، والمشاورات العسكرية السياسية، وجلسات لجان الكنيست، ومراسلات وزارة الخارجية… وتقييمات الوضع في ما يتعلق بسير الحرب والدفاع المدني وتنظيم الجبهة الداخلية خلالها”.
واعتبر الأرشيف أن هذه المواد “توفر لمحة مذهلة عن عملية صنع القرار من قبل القادة في ظل ظروف عدم اليقين، والقتال على مختلف الجبهات، والاتصالات السياسية التي جرت بوساطة الولايات المتحدة في نهاية الحرب وبعدها مع مصر وسوريا، والمسار الذي أدى إلى توقيع ترتيبات فصل القوات مع مصر وسوريا”.
وانتهت حرب 1973 بوقف نهائي لإطلاق النار في 24 تشرين الأول/ أكتوبر، مع احتفاظ إسرائيل بالسيطرة على شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان، التي استولت عليها في حرب “الأيام الستة”.
قُتل في هذه الحرب أكثر من 2500 جندي إسرائيلي وأصيب الآلاف.