مجلس النواب
تصوير عباس سلمان

“الإنقلاب” نحو الحوار.. فرضه  فشل  “الإنقلاب”!

| جورج علم |

الحوار في أزمة. إنها أزمة خيارات حول أيّ لبنان؟

تبحر المكونات الطوائفيّة خارج الدستور، والميثاق. كلٌّ يجاهر بقناعاته، وقناعاته وليدة المصالح والنزوات الشخصيّة، والفئويّة، يباعد ما بينها منطق الإستقواء، فلا تلاقي حول المسلمات، ولا حتى حول الأولويات، وهذا ما يعمّق الهوّة، ويطيل من أمد الفراغ.

وليست عقدة الحوار لدى جهة، بل عند غالبيّة المكونات. إنها سارية المفعول عند الموارنة أولاً،  لقد عجزت بكركي عن جمع رؤساء الكتل والتيارات والأحزاب، وكان المخرج حواراً ثنائياً، ومع كلّ طرف على حدة. وحاولت جمع النواب المسيحييّن، لكنّها لم توفّق، واستعيض عن الحوار، لقاء صلاة وتوبة في بيت عنيا.

والداعون إلى الحوار، كانوا طليعة رافضيه في السابق. اليوم تغيّرت عندهم الحسابات، وبات مطلباً، وربما وسيلة لاستكمال تنفيذ خارطة الطريق، ووضع البلد في عين المحاور، وإبقائه ساحة مشرّعة لتبادل الرسائل الإقليميّة ـ الدوليّة. في العام 2008، كان هناك أزمة استحقاق، وفراغ استمر 18 شهراً، ولم تكن هناك من دعوات ملحّة للحوار، وانتهى الأمر باتفاق الدوحة، وانتخاب ميشال سليمان رئيساً. وفي العام 2016، إستمر الفراغ 29 شهراً، ولم يكن هناك من إلحاح على الحوار، كما الحال الآن، وانتهى بعد 45 محاولة فاشلة، إلى إنتخاب ميشال عون رئيساً.

يعلن السياديّون بأن مساراً إنقلابيّاً قد بدأ بعد 14 شباط 2005، وانسحاب الجيش السوري نهاية نيسان من ذلك العام. مسار مدجّج، مؤدلج، أطاح بتوازنات، فرض أخرى، ويتكىء على دعم مكشوف ومعروف الأهداف والمقاصد.

لم يكن الحوار يوماً رأس أولوياته. مطامحه كانت تتحقق بوسائل أخرى، إجتاز الكثير من المطبات، وواجه العديد من الإستحقاقات، وحقق لنفسه، ولمرجعيته مكاسب. الآن عنده حنين إلى الحوار، لكنّه يقابل برفض من قبل مكونات، وبفتور، وتشكيك من مكونات أخرى. والحجة أن الإستحقاق الرئاسي أولوية يجب ألاّ تتقدّم عليها أيّة أولويّة. وإنجازه لا يحتاج إلى حوار، بل إلى تطبيق الدستور، إنه حاضر في صفحاته، ومدرج ببنود لا تحتاج إلى تفسير أو إجتهاد.

يعتبر الرافضون للحوار، بأن الإنقلاب الممنهج، الذي بدأ منذ العام 2005، لم ينجح، ولم يعد أصحابه يملكون الكثير من الفرص الحاسمة. وتنبع الدعوة إليه من ضعف، لا من فائض قوّة، ولو كانت رياح المستجدات والتطورات تجري وفق ما تشتهي الأشرعة، لما كان هناك من رايات بيضاء ترفع فوق السواري إيذاناً للدخول إلى مرافىء التسويات.

مظاهر الضعف تنبع من البيئة الحاضنة. لم تعد متراصّة. لم تعد منيعة الجوانب. قاعدتها رخوة، وتتسلّل من تشققاتها الكثير من الأسئلة المقلقة حول الحاضر والمستقبل، ومصير الثنائيّة، التي تتحوّل يوماً بعد يوم إلى ما يشبه القاطرة والمقطورة.

وتنبع مظاهر الضعف من مكونات وطنيّة مؤسسيّة للكيان، تشعر بقرارة نفسها بأنها مستهدفة. لقد دفعت أثماناً باهظة للذود عن مبادئها الوطنيّة، من خيرة قادتها ورجالاتها، وهي تبدو اليوم متمسكنة، لكّنها لا تعرف السكينة، ولا تقبل أي تطاول أو افتئات على الحضور، والدور، والمكانة.

وتنبع مظاهر الضعف من مظاهر الإنقلاب. ماذا بقي من لبنان الوطن، والكيان، والدولة، والمؤسسات، والنظام المالي، والمصرفي، والإستشفائي، والتعليمي، والخدماتي؟ كانت هناك أسباب وطنيّة وجوهريّة فرضت أمراً واقعاً في الجنوب ملتصقاً برحيق الأرض، وعنفوان التراب. لكن ماذا بعد؟ لقد تمددّ الأمر الواقع إلى الداخل، عن طريق الترهيب والترغيب، وأفضى إلى نشوء إزدواجيّة مدمّرة. لا يحكم بلد برأسين. ولا يأمن شعب بجيشين، وسلاحين، ووظيفتين، وولاءين. ولا يقوم اقتصاد على نظريتين. ولا ينتعش ازدهار واستثمار في حمى دولتين؟

يعرف الإنقلابيّون بأن فائض القوّة قد فرض استئثاراً، والإستئثار قد فرض واقعاً معيوشاً، والواقع المعيوش هو جهنم، أو ما هو أبعد من جهنم. يعرفون بأن الفائض قد يفرض غلبة، لكن الغلبة لا تفرض إستقراراً، وأمناً، وإزدهاراً في بلد الـ18 طائفة، وجمهوريّة. ولا يكفي التغنّي بالسيطرة على شبكات الاتصالات، والمواصلات، والشاردات، والواردات، والتنظيمات والمنظمات، في ظلّ الفراغ الذي يتمدد ويتوسّع في الوجدان الوطني، ويترك تداعيات أقل ما يقال فيها بأنها تجويفيّة، تدميريّة، تفتيتيّة.

والدعوة إلى الحوار، تبقى مشبوهة ما لم يرافقها جدول أعمال واضح ببنوده، متحرّر من الغموض والإلتباسات، وجريء في تحديد الأولويات والخيارات. لم يعد يملك لبنان اليوم ترف هدر الوقت، والفرص، والمبادرات. كاد الزازال أن يقضي على البقية الباقية من الهيكل، وإذا ما انهار، فعلى رؤوس الجميع، ولن يوفّر أحداً.

ومن يملك، يجب أن يعطي. ومن يستقوي، عليه أن يدرك بأنه في وطن متعدد الثقافات، والولاءات، كلبنان، لا يستدام استقواؤه بفائض السلاح، بل بفائض الإحترام من سائر المكونات. وهذا الإحترام لا توفّره النبرة العالية، بل الواقعيّة التي ترفع مداميكها ورشة وطنية متفاهمة، متكافئة، متضامنة، تعيد لهذا الكيان ألقه، وتمايزه، وإنبهاره.

وفي جعبة الأيام، وسرديات التاريخ، الكثير من العبر. وهذا المشظّى اليوم، لا تبرؤه عمليات تجميليّة، ولا يتعافى بنزوات فئويّة. ولو كان الإنقلاب ممكناً وقادراً أن يحقق الأغراض، والمرامي، لما كانت دعوة للحوار؟ ولما كان التشديد والتأكيد عليه؟ وليس عند الآخرين، لغاية الآن، من آذان صاغية. أما إذا كان تحقيقه من المستحيلات، ويعاني من نقص في المناعة الوطنيّة، ومن عيوب في أكثر من موقع ومكان، فلما لا يكون من  تواضع للمصلحة العامة، واحترام لسائر المكونات، وعلى قاعدة انصهار الدويلة بالدولة، وحشد الطاقات، والإمكانات، لبناء وطن  يعلو فيه القانون، ولا يُعلى عليه؟

error: Content is protected !!