رياض سلامة

سلامة يغادر إمبراطوريته.. الدولار بلا سقف؟

| خلود شحادة |

“لا معلّقة ولا مطلّقة”، مثل لبناني يختصر حال حاكمية مصرف لبنان اليوم، التي سيصلها شبح الفراغ بعد أيام قليلة.

يغادر الحاكم الحالي لمصرف لبنان رياض سلامة امبراطوريته، تاركاً خلفه تاريخاً طويلاً من العمل النقدي والهندسات المالية، والاستراتيجيات الاقتصادية التي أوصلت البلد إلى ما هو عليه اليوم.

منذ العام 1992، ولبنان يستنزف أمواله على دعم الليرة اللبنانية. واستطاع سلامة، عبر تطبيق استراتيجية الدولة التي وُضعت آنذاك، أن “يفرض حضوره وقوته” عبر تمكّنه من تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية حتى أواخر العام 2019.

المشكلة الحقيقية تكمن في غياب الأرقام المالية التي تظهر كلفة تثبيت سعر صرف الليرة أمام الدولار خلال الـ32 عاماً، كل ما يمتلكه أهل الاختصاص عن الملف أن عملية التثبيت هذه كلّفت “عشرات مليارات الدولارات”، التي يقولها اللبنانيون كـ”شربة ماء”!

بين عامي 1992 و2020، بلغ حجم الفجوة المالية في لبنان حوالي 256 مليار دولار، من ضمنها حوالي 70 مليار دولار في مصرف لبنان، أما المبلغ المتبّقي توزع بين تكاليف تثبيت الليرة، ودعم المواد الأساسية كالطحين والمحروقات، بالإضافة إلى ما يقارب 45 مليار دولار صُرفوا على قطاع الكهرباء، والنتيجة الليرة منهارة، لا بضاعة مدعومة والمواطن مهدد بلقمة عيشه، ولبنان غارق بالعتمة!

السياسات والهندسات المالية والاقتصادية التي اتبعتها الدولة اللبنانية طوال تلك الفترة، أدت إلى انهيارات اقتصادية متتالية وحقيقية آنذاك، إلا أنه تم استدراكها عبر مؤتمرات دولية، كان لبنان يستدين من خلالها لتأجيل الانهيار، وإبقاء حالة “الرخاء الكاذب”. ومن هذه المؤتمرات باريس 1و2، ومحاولة سيدر العقيمة وغيرها.

لعبت هذه المؤتمرات دور “الصدمات الكهربائية”، التي استطاعت انعاش البلد آنذاك، حتى وصل لبنان إلى مرحلة “عدم الاستجابة”، فانكسر الميزان التجاري وبدأت أولى حلقات مسلسل الانهيار الاقتصادي.

حاولت الدولة اللبنانية استدراك الأمر، وتأجيله قدر المستطاع، بسد العجز عبر الاستدانة من مصرف لبنان، الذي كان بدوره يستدين من المصارف، والأخيرة تستلف من ودائع اللبنانيين.. وهكذا تبخرت أموال الناس!

يمكن اليوم توصيف حال الليرة اللبنانية بأنها “ممسوكة” غير “متماسكة”، فسلامة استطاع الإمساك بالليرة عبر منصة “صيرفة”، وبالتالي هو يتحكم بسعر الصرف، ويملك مفاتيح الأرقام والأسرار والإدارة للواقع المالي في لبنان، إلا أن الجميع بات يعلم أن الليرة تقف على “المهوار”!

مع رحيل رياض سلامة، يُطرح سؤال أساسي: هل سيبقى سلامة يدير المال من خارج مصرف لبنان عبر “صيرفة” وعبر تلك المفاتيح والأسرار التي يمتلكها؟

سلامة لا يمكن أن يتخلى عن هذه المفاتيح، لأنها ببساطة تشكّل جدار الحماية الذي يحول بينه وبين المحاسبة والعقاب، كما أن أسرار “السلطة” بيده، وهذا ما يعتبره سلامة ورقة تهديد لأركان “المنظومة” بفتح خزنة الأسرار.

هل حصل الحاكم على ضمانات داخلية لخروج آمن؟ وما هي هذه الضمانات؟ وإذا كانت “صناعة لبنانية”، هل ستحميه من الملاحقة الخارجية؟

لا أحد يمتلك الجواب، على الأقل، في الوقت الحاضر، إلّا إذا كان قد تم تأمين مخرج خارجي لسلامة خلال عملية تأمينه داخلياً.

لكن السؤال الذي يؤرق بال اللبنانيين حالياً، ما الذي سيحل بـ”الدولار” عقب انتهاء ولاية سلامة؟

وفي معرض الإجابة عن هذا الاستفسار، لا بدّ من الإشارة إلى أن حجم الكتلة النقدية اليوم في السوق بحدود 100 ترليون ليرة لبنانية، حيث يعتبر هذا الرقم كبير جداً في ظل تراجع الطلب على الليرة اللبنانية مع “دولرة” الأسعار في السوق اللبنانية، من المطاعم إلى التعاونيات وجميع مراكز التسوق.

ورغم ذلك، فإن التقديرات تقول أن إمكانية امتصاص هذه الكتلة ليست مستحيلة.

لكن الخوف اليوم هو أن يتم اقفال منصة “صيرفة” مع مغادرة سلامة، أي اقفال المصدر الرئيسي لتمويل التجار بالعملات الصعبة، مما سيدفع التجار لشراء الدولار من السوق السوداء.

توجه التجار إلى السوق السوداء، سيؤدي إلى ارتفاع الطلب على الدولار، وسيرتفع بذلك حجم التداول بالدولار في السوق السوداء إلى مئة مليون دولار يومياً، وبالتالي ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية.

شراء الدولار من السوق الموازية بدلاً عن “صيرفة” من قبل التجار، سيدفعهم إلى رفع أسعار البضاعة والسلع بالدولار الأميركي، إلى جانب ارتفاع أسعارها بالليرة اللبنانية تزامناً مع هبوط قيمة الليرة.

هذا التغيّر المفاجئ في عملية التداول، سيدفع سعر صرف الدولار إلى عتبة جديدة لم يشهدها من قبل.

وبحسب معلومات موقع “الجريدة”، فإن التقديرات الاقتصادية لسعر الدولار اليوم هو ما بين 150 و200 ألف ليرة، وهذا ما ينذر بفلتان الدولار بعد اغلاق “صيرفة” ليصبح من دون سقف.. وعندها “سيترحّم” الناس على أيام سلامة، لأنهم سينتقلون من تحت “الدلفة لتحت المزراب”.

يقول الوضع الحالي، إن مرحلة الارتطام اقتربت، فطوال الـ4 سنوات كان لبنان بمرحلة السقوط التدريجي، ينتظر مرحلة الارتطام بالقاع.

لم يعد ينفع التخدير ولا التأجيل، وسقف قدرة الدولة على إطالة أمد السقوط هي نصف سنة لا أكثر، عبر الاستدانة من احتياطي المركزي 200 مليون دولار شهرياً، على مدى 6 أشهر، وهذا لن يحل الأزمة بل يشتري الوقت فقط، ويزيدها سوءاً بعد انتهاء مهلة الموت السريري.