/ جورج علم /
حدث الاتفاق في الخليج.. فاهتزّ لبنان، وضجّ الفضاء السياسي والإعلامي بالتحليلات والإستنتاجات. بعضها مشرق، وبعضها مشكّك. وإمتلأت العيادة الصينيّة بسلال الورد، وبرقيات التهنئة بـ”المولود الجديد”، بإستثناء قلّة على رأسها الولايات المتحدة التي شدّدت على ملاحظتين:
الأولى، أنها كانت على علم بما يحاك في الصين. وقد استقبلت الاتفاق السعودي – الإيراني في كنف محادثات أمنيّة مكثّفة كان يجريها رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأميركي الجنرال مارك ميلي، مع نظيره “الإسرائيلي” هرتسي هليفي ووزير الدفاع يوّاف غالانت ورئيس “الموساد” ديفيد برنياع. كما استقبلته بحماية في كنف استراتيجيّة كان يشدّ أطنابها وزير الدفاع الجنرال لويد أوستن في كلّ من الأردن، ومصر، و”إسرائيل”.
الثانيّة، تعوّل واشنطن على مهلة الشهرين لعودة السفراء، وتطبيع العلاقات الدبلوماسيّة بين الرياض وطهران، ومراجعة سلوك إيران في المنطقة خلالهما، والتأكد ما إذا كان الاختراق الصيني لمنطقة النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، والخليج، هو محاولة جديّة، ام مجرّد قنبلة صوتيّة، وحبر على ورق!
لم يكن “الاختراق” حدثاً مباغتاً، طارئاً، في حسابات الأميركي. كان ينتظره، ويتوقعه، حيث ولد “الإتفاق” ـ وفق قراءته ـ في غرفة العناية الفائقة للرئيس شي جينبينغ، وغداة إعادة إنتخابه لولاية جديدة تمتد لخمس سنوات. وأيضاً بمناسبة تأكيده، وتصميمه على تنفيذ “مبادرة الحزام والطريق” التي قامت على أنقاض “طريق الحرير” في القرن التاسع عشر، من أجل ربط الصين بالعالم لتكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشريّة.
وقد نجح في هذا المضمار بنواح، منها:
- تمكّن من دمج “المبادرة” بدستور بلاده في العام 2017.
- وعد بإنجاز مراحلها في العام 2049، تزامناً مع الذكرى المئويّة لتأسيس جمهوريّة الصين الشعبيّة.
- نجح بإبرام استثمارات استراتيجيّة مع كلّ من الرياض وطهران تقدّر بمئات المليارات من الدولارات، قبل التوصل إلى اتفاق بينهما يحصّن “مبادرة الحزام والطريق”، ويحمي الإختراق الذي يحقّقه في منطقة محسوبة تاريخيّا ضمن دائرة النفوذ الأميركي.
كان الإعلان عن الاتفاق، أشبه بقنبلة دبلوماسيّة ضخمة انفجرت في الخليج، وتركت وتترك ترددات على مستوى الشرق الأوسط، والعالم، استناداً إلى مؤشرين:
الأول، إنه اتفاق بين الجارين اللدودين، بعد 40 عاماً من التباعد.
الثاني، إنه يحمل ماركة “made in China”، وليس في الولايات المتحدة، أو الأمم المتحدة، أو الاتحاد الأوروبي. ولأنه كذلك، فإن “مكتسبات المناعة” عنده قد تكون ضعيفة، ولا تقوى على صدّ عوارض الإختناق. ومن المؤشرات:
أ ـ إن الجمهورييّن في الكونغرس الأميركي وجهوا انتقادات صريحة طاولت مدير وكالة المخابرات المركزيّة ويليام بيرنز، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، حول ما وصفوه “محاولات الصين إدخال السعوديّة في فضائها”. ولم ينظروا إلى الاتفاق، إلاّ من زاوية المصالح التي تبتغيها بكين، من خلاله.
ب ـ إن العاصفة التي هبّت داخل الكنيست الإسرائيلي ضدّ بنيامين نتنياهو وفريقه الوزاري، لم تهدأ بعد. التهمة واضحة: “منشغلون في تدمير المؤسسة القضائيّة في الداخل، فيما الصيني يحيك شبكة العنكبوت من حولنا لمحاصرتنا!”.
ج ـ سباق القوى العظمى المحموم حول منابع الطاقة على خلفيّة الحرب في أوكرانيا. صحيح أن الصين تستورد مليوني برميل يوميّاً من السعوديّة وحدها، مقابل 300 ألف برميل تستوردها الولايات المتحدة يوميّاً، إلاّ أن واشنطن لا تنظر من هذه الزاوية، بل من موقع استراتيجي مع دخول الصين “كمنافس جدّي على منابع الطاقة في الخليج، الإستثمار بموارد أكبر دولتين نفطيتين في المنطقة، والتوغل في شرايين الإقتصاد، ومحاولات دمجه بمبادرة الحزام والطريق”.
د ـ إن الاتفاق مهم، لكن الأهم صدقيّة التنفيذ، ولا تملك الصين وحدها ـ من المنظار الأميركي ـ القدرة والضمانات. إنه مسوّر بشريط من الألغام، ومن يملك “كبسة الزر” هما واشنطن وتل أبيب، في أية لحظة تشعران فيها بأن مصالحهما الحيويّة مهددة. وإن مصلحة إيران في الوقت الراهن، التجاوب، لأن الاتفاق يكسبها المزيد من الأوكسيجين، في هذه الفترة المصيريّة الحرجة، كي تتجاوز حال الاختناق، لكن مع تبدّل الظروف، قد يأتي يوم تشعر فيه بأن سقوفه ضاغطة، ولا تقوى على المكوث خلف قضبانه، ولا بدّ من إعادة النظر!
ولعل ما يشغل العالم، هو حجم الأثمان التي قد تُدفع، في ما لو قررت الولايات المتحدة بالتنسيق والتعاون مع حلفائها، صدّ الاختراق الصيني. أثمان قد تتكبدّها الدولتان المسهّلتان لعمليّة الاختراق، وبعض دول المنطقة، بينها لبنان.
وفي الحديث عن لبنان، كان هناك دفق عارم من التحليلات الإيجابيّة، إلى حدّ أن البعض قد أوحى بأن الإتفاق قد أبرم كرمى لعيون الاستحقاق الرئاسي، وأن عمليّة الإخراج باتت مسألة اسابيع!
بالمقابل، كانت ردّة فعل بعض السفراء المعنييّن بالإتفاق، مشوبة بالحذر، والتحفّظ. حذر نابع من غياب الضمانات الكافيّة لتنفيذه، ومن قبل كل الأطرف الإقليميّة والدوليّة الفاعلة على مسرح الشرق الأوسط. وتحفّظ حول إمكانية معالجة كل الملفات الساخنة المدرجة على جدول الأعمال، انطلاقاً من اليمن، مروراً بالعراق وسوريا، وصولاً إلى لبنان، بفترة زمنية مرصوصة، لأن الشرق الأوسط لا يزال مسرحاً مفتوحاً لصراع المحاور، ولا تزال منطقة الخليج إحدى ساحاته الساخنة.
وحتى إذا سار الاتفاق وفق الخطّ المرسوم له، فإن المعالجات قد تستغرق سنوات، ولا يقوى لبنان على الانتظار، والاستمرار في لعبة “طرّه أم نقشة”، فيما الإستحقاق محشور بممرين إلزاميين: إما تفاهم لبناني ـ لبناني، وهو مستعصٍ حاليّاً. أو “صدمة عنيفة”، يمكن أن تعيد خلط الأوراق، وتحمل الخارج، والداخل على بلوغ تسوية!