/ جورج علم /
تعصف جائحة الفوضى. تنهار أعمدة القضاء. تتداعى جدران الثقة. تتحلّل مفاصل الدولة. يضرب جنون الدولار بسوطه ركود الأسعار. تنشط المافيات تحت السقوف المتصدّعة، يخرج المواطن مذعوراً من جرح كرامته، مسربلاً برداء الفاقة، يتوسّل قضمة رغيف، وحبة دواء، فيما يعوي الجوع وسط الأحياء المكتظّة. هل بلغ الإعصار الشارع؟
الجواب مربك. توازنات البلد دقيقة، وهشّة، وهناك ثنائي يتصرّف كأنه نقطة الارتكاز، وهناك شارع متفلّت يعجّ بالفوضى، وتقرقع في جنباته كلّ أنواع الأسلحة الفئويّة، والطائفيّة، والمذهبيّة… إلاّ إذا كان المقدّر، والمحسوم إقامة الجنازة الكبرى عن روح لبنان الذي نعرفه، قبل أن يوارى الثرى، في مدافن “لبنان الكبير”، والانتقال نحو لبنان الذي لا نعرفه، والذي تُرسم جغرافيته السياسيّة، في أقبية التوازنات الدوليّة والاقليميّة الناشطة في المنطقة، والسارية المفعول في العديد من دول الجوار.
ثمّة أسئلة ترافق صخب الشارع. هل ما يجري تديره غرف سوداء، أم نتيجة زلزال الفساد الذي ضرب الركائز، وخلخل الأساسات التي قام عليها الكيان؟
جاء الوفد القضائي الأوروبي في زيارة تشاور حول تبييض أموال، وما انتهى إليه مسار التحقيق في المرفأ، فانفجر القضاء، ووقعت الواقعة ما بين مدّعي عام التمييز، والقاضي المخوّل. وقبل ن تنتهي المعالجات، وتسوّى التباينات، انفجر إضراب المصارف. فمن أوعز؟ من هي الجهة المحرّضة؟ لن يطول الأمر لـ”تعرف القرعة من أم القرون”، ولكن بعض الملمّين بأسرار الخفايا والخبايا، يصفون القرار بالمتسرّع، وقد اتخذ في التوقيت الخطأ تحت شعار الضغط لإقرار قانون “الكابيتال كونترول” في جلسة تشريعيّة، ووفق الصيغة التي تمنع أصحاب الودائع من اللجوء الى القضاء لتحصيل حقوقهم، وتمنح أصحاب المصارف صلاحيات استثنائيّة للتحكم بمصير الودائع.
حجّة البعض أن مدّعي عام التمييز في جبل لبنان القاضية غادة عون هي التي دفعت بالقطاع المصرفي نحو هذا المنزلق، نتيجة ملاحقاتها لعدد من أصحاب المصارف، ورؤساء مجالس إداراتها، بالكشف عن أموالهم المنقولة، وغير المنقولة. فيما حجّة البعض الآخر أن صندوق النقد الدولي هو من يحرّك “ويشيل ويحطّ”، وأن نائب رئيس المجلس النيابي الياس بو صعب كان في واشنطن، والتقى مسؤولين في إدارة الصندوق، وأكدوا له بأن أي مبلغ لم يحجز خلال السنة المالية الحاليّة لدعم لبنان، لأنه لم يفِ بالتزاماته، ولم ينفّذ الإصلاحات التي وعد بها، وفي طليعتها “الكابيتال كونترول”، فتسارعت الخطى في الداخل، لكن نحو خيار غير محسوم النتائج والتداعيات، أقله من قبل أصحاب الحول والطول في الوطن المنهوب المتداعي.
يحصل ذلك فيما ناقلة النفط الإسرائيليّة تبحر باتجاه أوروبا ناقلة الدفعة الأولى من حقل “كاريش”، تنفيذاً لعقود استثمار تقدّر عائداتها بمليارات من الدولارات. ويذهب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى بكين ليوقّع عقود تعاون في مجالات عسكريّة، وتكنولوجيّة، وتجاريّة. ويعود رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني من دولة الإمارات بدزينة من الإتفاقيات المبرمة لتطوير العلاقات. ويفتح مطار دمشق أبوابه أمام الطائرات الخاصة التي تقلّ وفوداً رسميّة خليجيّة وعربيّة لفتح نوافذ كانت مغلقة، ولو تحت سقف التضامن الإنساني بعد الفواجع التي أحدثها لزلزال.
في ظلّ هذه التطورات، ينتهي الإجتماع الخماسي في باريس إلى التهديد بتحريك العقوبات ضد معرقلي المسار الديمقراطي بانتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة قادرة على إقرار الإصلاحات، في الوقت لذي وضع فيه الرئيس نبيه برّي الملف على رفّ الإنتظار، حجته أن جلسات الإنتخاب قد تحوّلت الى مسرحيّة هزليّة، ولا بدّ من مقاربة مختلفة لم تنضج ظروفها بعد، ليتفرغ إلى جلسة تشريعيّة بحكم الضرورة، فيما الضرورة مجرّد وجهة نظر، ينظر إليها كل فريق من زاوية حساباته، ومصالحه الخاصة، ولها أكثر من تعريف، ومن بيان، والدليل أن فريقاً يرى الضرورة، وفق مقتضيات الدستور، حكراً على الإستحقاق الرئاسي، ولا ضرورة تتقدم على انتخاب رئيس يكون البداية والمنطلق لإعادة انتظام المؤسسات، فيما فريق آخر يستهويه الفراغ، ويحاول الاستثمار في متاهاته لتقويض الدولة، وتجويف المؤسسات، فيرى الضرورة في عقد جلسات لمجلس الوزراء بصورة طبيعيّة، ومنتظمة، تحت شعار معالجة القضايا الملحّة، وهي كثيرة، تبدأ بالكهرباء، إلى الاستشفاء، إلى التربيّة، إلى الاقتصاد، والمال، والتحديات المعيشيّة، والاجتماعيّة. وتأكيداً على مبدأ التوازي والتوازن، اتخذ القرار بأن لا يقتصر شرف “جلسات الضرورة” على مجلس الوزراء، بل يفترض أن يشمل مجلس النواب، والانخراط بجلسات “تشريع الضرورة”، طالما أن الرئيس برّي نجح لغاية الآن في وضع ملف الإستحقاق الرئاسي على رفّ الإنتظار، والى أجل غير محدد.
ووسط تراكم الضرورات، تبرز ضرورات الشارع. الناس قلقة على ودائعها، على مصيرها، على حاضرها، ومستقبلها. الدولار يرقص رقصة بهلوانيّة تؤذن بزلزال مدمر، والناس ترقص على وقعه جزعاً، خوفاً من مصير محتوم، ولم يعد مهمّاً من يؤلّب الشراع، هل هي الغرف السوداء في بعض عوصم دول القرار، أم المافيات المحليّة؟ المهم متى يُنزِل الرئيس برّي ملف الإستحقاق عن الرف؟ وهل من رئيس، أم ما نشهده بداية مراسم الجنازة لدفن “لبنان الكبير”، بانتظار لبنان آخر تشرف على ولادته قابلة دوليّة ـ إقليميّة، يتوافق مع مصالحها، ومع مصالح إسرائيل أولا.