/محمد حمية/
لا يشبه العام 2022 السنين العجاف السابقة التي شهدت على سلسلة من الانهيارات وفاضت بالأزمات والكوارث والصراعات، منذ اندلاع أحداث 17 تشرين 2019 والانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي والأمني الذي رافقها.
لكن، في نظرة للمشهد من جانب آخر، يظهر أن العام الحالي كان امتداداً للأعوام الماضية، لجهة تعميق مثلث الانهيار المالي والنقدي، ومزيد من التصدع في البناء الاقتصادي والاجتماعي، واستنزاف احتياط مصرف لبنان والودائع المصرفية، وارتفاع سعر صرف الدولار والتدهور في القطاعات كافة، وشبه استسلام الدولة للانهيار، وتسعير الحرب المصرفية ـ القضائية بالتزامن مع تصعيد المعركة الأمنية بين المصارف والمودعين.
لكن مفارقة العام كانت ارتفاع الدولار أكثر من ضعفين من الـ20 ألف ليرة الى 47 ألف ليرة، ما فاقم الأزمات على المواطنين، فحكومة الرئيس نجيب ميقاتي لم تستطع لجم الانهيار ولا تقديم حلول للأزمات، لكنها كانت تجمد الانهيار والانفجار الكبير، وفي الوقت نفسه صدمت اللبنانيين بالكثير من القرارات والاجراءات التي عمقت فجوة الفقر، وبات لبنان عائماً على بركان نائم يمنع انفجاره الدولارات الاغترابية من الخارج وحسابات سياسية استراتيجية للدول الغربية الكبرى.
لكن سمة المشهد السياسي لهذا العام، كانت انكفاء الرئيس سعد الحريري وتيار “المستقبل” عن المشهد الانتخابي والسياسي، ما بعثر الخريطة السياسية، وترك تداعيات على تركيبة المجلس النيابي في الانتخابات الأخيرة التي كانت بدورها انعطافة سياسية أثرت على بقية الاستحقاقات لا سيما رئاسة الجمهورية.
فإقصاء سعد الحريري أحدث زلزالاً على الساحة السنية وخللاً ميثاقياً في النظام السياسي والطائفي الحاكم للمعادلة الداخلية منذ اتفاق الطائف.. غياب الزعيم السني الأقوى، ترك فراغاً نيابياً وتشتتاً سياسياً كبيراً، ملأته قوى متعددة ومبعثرة في مناطق عدة لم تستطع الانضواء ضمن كتلة نيابية أو سياسية مركزية، ولا الالتقاء على عناوين وأهداف ومواقف واحدة، على الرغم من محاولات السعودية جذبها تحت “خيمة السفارة”.. هذا الغياب الحريري و”اليتم السني” أثرا على تركيبة المجلس النيابي، وأحدثا خللاً في القرار السني وفي توازن الشراكة الوطنية وانجاز الاستحقاقات.
إجراء الانتخابات النيابية الأولى بعد أحداث 17 تشرين، شكل مفصلاً هاماً، وأعطى بصيص أمل لجهة استمرارية عمل المؤسسات الدستورية الاساسية، واكمال باكورة الاستحقاقات الأخرى، من حكومة ورئاسة جمهورية وخطط انقاذية، وأشر الى وجود مظلة أمان دولية للاستقرار السياسي والامني في لبنان. لكن سارت الرياح الخارجية بما لا تشتهي السفن الداخلية، فتعثر تأليف حكومة على حافة نهاية ولاية رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، ولعبت القوى السياسية (بعبدا عين التينة السراي الحكومي) اللعبة الحكومية على شفير الفراغ، فكلف ميقاتي بلا تأليف، وتحولت حكومته مكاناً للنزاع الدستوري والميثاقي والسياسي، ما أصاب الحكومة بالجمود، وزاد الطين بلة توقيع عون مرسوم قبول استقالة الحكومة قبل نهاية ولايته.
الاستحقاقان الحكومي والرئاسي كانا الاختبارين الاولين للمجلس النيابي الجديد، فكان التعثّر سيد الموقف في كلاهما، فميقاتي بقي مكلفاً بلا تأليف وحتى بلا تصريف، حكومة متنازع على شرعيتها ودستوريتها، وسرعان ما تفجر الخلاف في أول جلسة لمجلس الوزراء بين ميقاتي والتيار الوطني الحر، وانسحب على العلاقة بين التيار وحزب الله، ما زاد في تأزم الملف الرئاسي.
تعدد مكونات المجلس النيابي وانقسامها على ذاتها، بما فيها كتلة قوى التغيير، صعّب مهمة تأمين أغلبية نيابية لانتخاب رئيس الجمهورية، وبالتالي تسيد فخامة الفراغ في بعبدا إلى أجل غير مسمى.
التجاذب السياسي والفراغ الرئاسي والحكومي، ألقوا بثقلهم على عمل المجلس النيابي، برفض القوى المسيحية تشريع الضرورة في ظل الفراغ، فطارت الاصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي.
الحركة الرئاسية الداخلية بلا بركة، وأبواب الحوار أغلقت بالكامل، فيما لم تتحرك المبادرات الخارجية بعد، وغابت الازمة اللبنانية عن جدول أعمال واهتمام قمة بغداد2 لتتركه وحيداً يواجه الفراغ والانهيار.
حفر العام 2022 في سجله انجاز ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية بعد سنوات شاقة من التفاوض، لم تكن لتؤدي الى نتيجة لولا التقاطعات الاميركية الاوروبية الاسرائيلية مع المصلحة اللبنانية باستخراج ثروته النفطية والغازية من بواطن الارض قبل انهيار السماء، لكن وإن جنبت “التسوية” لبنان والمنطقة حرباً كبيرة فيما لو لم يوقع اتفاق الترسيم، لكن شروط التسوية لم تحقق للبنان المصالح والضمانات الكافية وبقي الشك والخوف هما السائدين، لكن السياسيين ارتضوا بالتسوية الممكنة في ظل الاوضاع الصعبة في لبنان. إلا أن كل الآمال على أن يشكل “البحر” سفينة النجاة للانقاذ من مستنقع المآسي والازمات، تحولت هباءً منثوراً، فلم ينسحب على السياسة، ولا تغييراً في الموقف الاميركي ـ الغربي ـ العربي من لبنان، ولا فتح باب الانفراج الاقتصادي، بل تفاقمت الازمات كافة، ليختتم العام أيامه على دولار اقترب من ورقة الخمسين ألف ليرة، قبل أن يتراجع، ولو مؤقتاً.