فراغ رئاسي علم لبنان ـ قصر بعبدا
تصوير عباس سلمان

من يطعن لبنان في الظهر؟            

/ جورج علم /

هناك توافق عام حول ضرورة انتخاب رئيس، ولكن ليس من توافق حول من يكون.

ويعاني الاستحقاق من ظاهرتين:

  • تكريس فائض القوّة، ومعه الخلل في التوازنات بين المكونات.
  • استخدام سلاح الفراغ كي تصبح الأجواء مهيأة أمام الأجندات الخفيّة التي يحاول أصحابها استغلال العرس الدستوري، لإيصالها الى “الصمدة” بأبهى حلّة ممكنة، مع شغف بتقبل التهاني.

أولى البواكير ” نريد رئيسا لا يطعن المقاومة بالظهر”.  لكن الذي يطعن ليس الرئيس، بل اختلال التوازنات الداخليّة، وتعدد الولاءات الخارجيّة، وغياب التوافق الإقليمي ـ الدولي.

يحمل “حزب الله” بطاقة تعريف واضحة لا يتردّد في إبرازها، يريد تكريس موقع في المقصورة لقيادة القطار. لكن “الشرطي” الأميركي لا يزال في صالة حجز التذاكر. و”الرقيب” السعودي لا يزال يدقق بالصلاحيّة: هل هي متطابقة وأحكام الطائف، أم على نقيض منها؟ وإذا كانت معادلة “جيش، وشعب، ومقاومة” مرفوضة، هل بالوسع القبول بمعادلة التسليم للحزب، وسلاحه، وحريّة قراراته، وخياراته على مستوى الداخل، والخارج؟

الرد جاء من بكركي “نرفض أن يأتوا ببديل يتبع سياسة الأصيل نفسها، فيتلاعبون به كخف الريشة، ويسيطرون على صلاحياته، ومواقفه، ويخرجونه عن ثوابت لبنان التاريخيّة، ويدفعونه الى رمي لبنان في لهيب المحاور”.

واللافت أن هذا الموقف قد تزامن مع الدعوة الى “تنقية الذاكرة والضمير” التي صدرت عن مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في ختام دورته السنويّة في بكركي، ما بين 7و11 الجاري.

ويستحق البيان الختامي، تشريح مضمونه، وتسليط الضوء على أبعاده الوطنيّة، والميثاقيّة. ويكفي راهناً التوقف عند نقطتين:

– التذكير “بالسينودس من أجل لبنان”.

– إلإعلان عن وضع خطة عمل تقضي بتعيين “لجنة حقيقة ومصالحة”، تضمّ حكماء، وتعمل على التواصل مع جميع الأطراف اللبنانييّن دينييّن، وسياسييّن، ومدنييّن، لتهيئة الأجواء، تمهيداً للدعوة الى الحوار…”.

قد تكون المواعيد تأخرت، واجتاز قطار الزمن الكثير من المحطات الواعدة بالحوار، ولكن أن تأتي الأمور متأخرة، خير من أن لا تأتي أبداً. والتذكير بالسينودس يطرح سؤالاً محوريّاً حول مصير 31 عاما من عمره (12 حزيران 1991)، ولماذا لم يُنفّذ؟. وعلى من تقع المسؤوليّة؟

والعودة الى السينودس، وفي هذا التوقيت، يستشفّ منها يقظة ضمير عند الجماعة الكنسيّة، ومردّها عتب فاتيكاني مضمر، نتيجة التقاعس والتباطوء في تنفيذ ما هو مطلوب تنفيذه من قبل المؤسسات المؤتمنة، لتجاوز الواقع المأساوي الذي سببته الحرب اللبنانيّة، وتحديداً في سنواتها الأخيرة التي مزّقت الكنيسة من الداخل بسبب تقاتل الأخوة.

وإذا كان بيان الأساقفة بحاجة إلى قراءة متأنّية من قبل أهل العلم، والإختصاص، فإن طفرة القلق لا تتصل بالمضمون، بل بالتوقيت أيضاً، ذلك أن صدوره يتزامن مع انتهاء أهم مراسم حضاريّة شهدت وقائعها مملكة البحرين التي استضافت “منتدى حوار الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني”، بمشاركة رأس الكنيسة الكاثوليكيّة، البابا فرنسيس، وإمام الأزهر الشيخ أحمد الطيب.

وليست إحتفالية المنامة بحوار الحضارات والثقافات، هي الأولى في الخليج العربي، فقد سبق لدولة الإمارات العربيّة المتحدة أن استضافت في شباط 2019، “مؤتمر حوار الأديان” برعاية وحضور البابا فرنسيس، وإمام الأزهر، وإن دلّ ذلك على شيء ، فعلى الإحتمال الجدّي في إستحداث أدوار، وتكريس بدائل عن الخصوصيّة اللبنانيّة. لقد قال البابا يوحنا بولس الثاني، يوماً،  بأن لبنان هو أكبر من  وطن، إنه رسالة. لكن هذه الرسالة بدأت تفقد جوهرها في وطن التناقضات، والمزيدات، والنكد السياسي، والانهيار المعنوي والأخلاقي، على مختلف المستويات.

يتغنّى اللبنانيون، بأن أرضهم أرض حوار، ووطنهم وطن التلاقي، لكن “التعايش الرمز” بدأ يعاني من جوائح ثلاث:

  • فائض قوّة يحمل مشروعاً للوطن، والنظام، والصيغة يطابق مواصفات محور إقليميّ.
  • عجز “العبقريّة اللبنانيّة” عن استيلاد الحلول نظرا للخلل المريع في التوازنات الداخليّة.
  • صيّاد خارجي ماهر يتوغل في الأدغال الداخليّة المتشابكة، ويقتنص الفرص، ليسقط ما تبقى من معالم دولة ونظام، ويضع يده على الثروات، ويتقاسمها حصصا ومربعات نفوذ.

والظاهر أن التلاقي والحوار، لم يعد ميزة حصريّة بلبنان. وجاء البابا ليقول أن في الإمارات حوار، وروح تعايش، وفي مملكة البحرين أيضاً، وسائر دول الخليج، وبالتالي على اللبنانييّن الإتعاظ بأن ما هو عندهم من إرث ثقافي حضاري ربما في طريقه نحو الإندثار، في ظلّ الجوائح المتماديّة في الداخل، والبدائل المتوافرة في الخارج.

قد يقال بأن مناخ الحريّة المتوافر في لبنان، لجماعات الأديان والثقافات، لا مثيل له في أي بلد آخر، ولكن ما العمل إذا تحوّلت الحريّة إلى فوضى، والفوضى إلى إنهيار مأساوي من دون ضوابط، مع عجز يتأصل في النفوس قبل النصوص؟!

ثم أليس من المثير للاهتمام والتساؤل أن تستحضر السعوديّة، في هذا التوقيت بالذات، الطائف، وتحتفل بذكرى مولده الـ33، وأن يستحضر أحبار الكنيسة الكاثوليكيّة “السينودس من أجل لبنان”، ويحتفلون بذكرى مولده الـ31، من دون مبادرات إنقاذيّة كفيلة بإعادة بناء لبنان وطن الإنسان، بديلاً عن “وطن الزواريب، وحارات كل من إيدو إلو”؟! ثم ما قيمة التذكير بـ”الطائف” أو “السينودس” في ظلّ أجندات إقليميّة، تتحيّن الإستحقاق الرئاسي، وترى في الفراغ فرصة لتحقيق المآرب، والمكاسب؟ وما قيمة الإتفاقيات والمواثيق إن خسر لبنان نفسه بفضل جشع أبنائه، وطمع الخارج بموقعه وثرواته؟!