الصورة من هيثم الموسوي

وليد جنبلاط في ظلّ رؤساء الآخرين

/ نقولا ناصيف /

لم يُقل مرة “صانع رؤساء” إلا لواحد هو كمال جنبلاط. إلا أنه لم يكن كذلك. رحلة الرئاسات اللبنانية كانت على الدوام بلا صانعين محليين، وأحياناً يُكتفى لهم بالاقتراع. لكن تجربة قصر المختارة مختلفة. ربما لأن الدار صاحبة الولاية الطويلة من “لبنان الكبير” الى الأيام الحالية في الجمهورية الثالثة الموشكة على لفظ أنفاسها. لئن كان تاريخها الاجتماعي يعود الى 400 سنة على الأقل، إلا أن تاريخها السياسي يعود الى 200 سنة على الأقل، الى ما قبل مقتل بشير جنبلاط “شيخ المشايخ” و”عمود السما” الذي كتب أولى صفحات تاريخ البيت في الكيان: أن يكون فيه وضده

وليد جنبلاط أقدم سياسيّي الحقبة الحالية. طوال 46 عاماً الى الآن لم ينقطع عن اللعبة السياسية، أو يصبح على هامشها. أتعبها من دون أن تستغني عنه أو تقصيه. لم يُنفَ كميشال عون، أو يُبعد كأمين الجميّل، أو يُسجن كسمير جعجع، أو انسحب وتقاعد كأولئك المنكفئين والمحتجبين أو الذين فقدوا مقاعدهم في الحكومة والبرلمان أو ابتعدوا عن أحزابهم. لم يدخله إليها المال كرفيق الحريري – أول مفتتحي السابقة – وإن أثرى أكثر مما أورثته إياه المختارة، ولا أدمجه في النظام والحكم السلاح والميليشيا، أو فرضته العقيدة والتطرّف. لم يكن كذلك من صنع السوريين مع أنه اتّهمهم بقتل كأبيه، إلا أنه صالَحَهم في أربعينه وتحالف معهم طويلاً وانقلب عليهم، ثم قاطعهم وشتمهم وانتهى به المطاف بأن يعتذر منهم من دون أن يعتذروا منه. رافق العهود وانقلب عليها.

يصح القول إن نبيه برّي صاحب الولاية الأطول في تاريخ برلمانات لبنان منذ استقلاله. لكن ما يصح أيضاً أن وليد جنبلاط هو أقدم رئيس حزب سياسي ولا يزال، وأقدم زعيم طائفة – إن لم يكن الأقدم ما دامت الزعامة في البيت نفسه – وأقدم صاحب امتيازات غير منقطعة في “لبنان الكبير” ثم في “الجمهورية اللبنانية” وأطولها عمراً. فوق ذلك، هو أقدم الملاكين الفرادى، إذا كان لا بدّ من حسبان الكنيسة المارونية المؤسسة أقدم ملاك في لبنان.
مع أن نجله تيمور أخذ مقعده في نيابة الشوف منذ عام 2018، ألا أنه لم يُلبسه العباءة نفسها لأبيه يوم أُلبِس إياها في نهار تشييع كمال جنبلاط. ربما يُعدّ تيمور – الوارث العلني بشهادة الأب – أقرب ما يكون الى متقدّم على متساوين في الكتلة النيابية لوليد جنبلاط، من غير أن يُحمّله بعد تاج الدار والعائلة والطائفة. هذا الدور لعبه قليلاً كمال جنبلاط عندما كان لا يزال في ظل والدته نظيرة جنبلاط صبياً صغيراً. ما إن تجاوز عمر الترشح بسنة واحدة فقط عام 1943 وأضحى نائباً، بدأ يتصرّف كقائد عائلته وطائفته. صار القرار عنده والمرجعية المعنوية وملاذ التشكي منه عندها. ليست الحال الآن نفسها. لا يزال وليد جنبلاط الذي يتقدّم في السنّ، في العقد السابع، المقوَّص والموحي بالمتعَب، كأنه في اليوم الأول. في تاريخ البيت، القريب والبعيد، لا تُلبس العباءة على الحياة، ولا تتخذ مدلولها الضارب الجذور وائتمانها على الطائفة والدار والعائلة إلا في الحِداد.

ليس ذلك فحسب ما ورثه جنبلاط الابن من جنبلاط الأب ولم يُعطَ بعد، وربما الى وقت طويل، الى جنبلاط الحفيد. ورث الحزب فبدّل رجاله تباعاً وأتى برجاله هو، فلم يشبه أحد منهم أنور الخطيب وبهيج تقي الدين. وضع العقائد التاريخية التي بنى الأب سمعته الدولية عليها في الأدراج. ورث “الحركة الوطنية” فلم تعش سوى سنوات قليلة، ثم تبخّرت بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 بأن تفرّق رفاقه فيها، فيما مال هو في عقد الثمانينيّات الى الاضطلاع بالدور المتفرّد. يحتاج الى حزبه في زمن الحرب، ثم يواريه في زمن السلم. أحد أفضل رهاناته في حياته – لم يُكتشف أثره إلا بعدما عادى حزب الله في العقود الأخيرة – لا أحد يسعه كنه سرّه أو مصادفة حصوله: تحالفه مع نبيه برّي. بعد انتصاره في “حرب الجبل” عام 1983، أنجده وليد جنبلاط في حرب بيروت بربطه الضاحية بالجبل. ومن ثمّ حكماها معاً. قاتَلا السُّنّة بالتناوب في منتصف الثمانينيّات وطردا ميليشياتهم من بيروت الغربية وسيطرا عليها. تقاتلا في شوارع العاصمة تارة باسم “حرب العلمين”، وطوراً باسم الصراع على قيادة المدينة وإمرتها وأعادا القوات السورية إليها. ممّا فعله الحليفان اللدودان في زمن الحرب أن قاتل نبيه برّي الفلسطينيين، فوقف وليد جنبلاط الى جانبهم. استمراء التجربة مع نبيه برّي أعادها مع رفيق الحريري. يختلفان ويتصالحان طوال عقد ونصف عقد من الزمن. في الحقبة السورية الطويلة، حليفاً لها، تحققت دمشق من الطريقة التي تقنعه بها: إما عبد الحليم خدام المشهود له بتقديم العروض، أو حكمت الشهابي المنوط به فرض الانصياع للقرار.

ما إن أُرغِمت سوريا على مغادرة لبنان، بدأ وليد جنبلاط يتصرّف، لوقت لم يطل كثيراً، من حيث انتهى كمال جنبلاط. لم ينحنِ الأب في نزاعه مع حافظ الأسد فدفع الثمن غالياً. بين عامَي 2005 و2010 بانَ وليد جنبلاط كأنه يكمل عن والده معركة 1976 قبل أن تهزم الأب ويُلغى باغتياله، عندما خاض الابن معركة المواجهة مع رئيس جديد لسوريا كان بدوره ابن مَن خَلَفَه، لا يدين له بشيء. يصعب القول إن وليد جنبلاط ليس مديناً لحافظ الأسد بالكثير الكثير الذي فعله له ومن أجله في لبنان. لذا يوم مات الرئيس الأب، انطوت مذذاك مرحلة سوريا في حياة وليد جنبلاط. لعل المعبّر الحقيقي عن هذا التحوّل، جهر به لأول مرة بموقف اعتراض ضد سوريا عندما طالب في جلسة مناقشة البيان الوزاري لحكومة رفيق الحريري عام 2000، في عهد إميل لحود، بإعادة انتشار قواتها في لبنان تنفيذاً لاتفاق الطائف.

ذلك ما لم يفعله يوماً في حياة الأسد الأب. لم يستطع التجرّؤ عليه مقدار ما فعل مع الأسد الابن. بعد أشهر مُنع من دخول سوريا، أبلغه إياه غازي كنعان، إلا كزائر لبناني عادي. تصالح مع الرئيس الخَلَف ثم افترقا عند تمديد ولاية إميل لحود، برفضه موعد بشار الأسد له لاستقباله في دمشق. بعد خمسة أشهر أصبح عدواً له. بمرور خمس سنوات، صالحهما الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. السنة التالية، عام 2011، بانفجار الحرب السورية قلب وليد جنبلاط نهائياً صفحة سوريا. أول ما جمعه بها اغتيال والده، وآخر ما جمعهما اغتيال رفيق الحريري.

ربما أفضل وصف يصحّ في إبراز ما يفرّق حافظ الأسد عن بشار الأسد، أن الأول أجلس الى يمينه نبيه برّي وإلى يساره وليد جنبلاط، بينما الثاني أجلس الى يمينه السيد حسن نصر الله وإلى يساره طلال أرسلان.

الرحلة الطويلة هذه لشخصية متقلّبة بمقدار ما تختار أقدارها، وهي كلمة السرّ التي تجمعه بوالده الراحل، مثلما تجمع الدار والبيت بغموض قدرهما. في الرحلة الطويلة، لم يُعطَ وليد جنبلاط يوماً أن يتشبّه بالأب، على الأقل تبعاً لإشاعة تاريخية رافقت الزعيم الراحل، هي أنه “صانع رؤساء”.

ما خلا ترشيح كميل شمعون وليس فرض انتخابه، لم يختر كمال جنبلاط في مساره السياسي مرة رئيساً للجمهورية يفوز، ويسعه أن يقول على الأثر إن الرئيس المنتخب مدين له، مع أن رئيس لبنان عام 1952 دان بالفعل بفوزه لقائد الانقلاب العسكري السوري الثالث أديب الشيشكلي وليس لأيّ أحد سواه. مذذاك توالى الرؤساء المتعاقبون على حياة الأب حتى آخرهم إلياس سركيس، دونما أن يصنع أحدهم.

ظهرت الفكرة وأضحت إشاعة للمرة الأولى عندما قيل إن كمال جنبلاط أجرى عام 1970 امتحاناً لسليمان فرنجية وإلياس سركيس، لدى اجتماعه بكل منهما كي يقرّر أيّهما يصوّت له ويمسي الرئيس المنتخب مديناً له بالمنصب. حصل اجتماعه بهما وأجرى الامتحان، إلا أن رياح الانتخابات عاكسته. أحرجته السفارة السوفياتية في بيروت، الحانقة من فضيحة محاولة تهريب طائرة “ميراج” كانت ضالعة فيها، بأن طلبت منه الاقتراع ضد المرشح الشهابي. كذلك لامبالاة صديقه جمال عبد الناصر باسم الياس سركيس. إذذاك قسّم نواب كتلته الثمانية بين المرشحين وفاءً لفؤاد شهاب والتزاماً بإرادة حليفَيه الاستراتيجيَّين موسكو والقاهرة: النواب حلفاؤه الانتخابيون صوّتوا لإلياس سركيس، وهو ونواب حزبه صوّتوا لسليمان فرنجية. كانت المرة الأولى، لكنها الأخيرة قيل عنه في ما لم يفعله: “صانع رؤساء”.

سوء حظ وليد جنبلاط أن يرافق الانتخابات الرئاسية منذ عام 1982 الى اليوم وهو على هامشها. كان وراء صائب سلام في معارضة انتخاب بشير الجميّل، بينما انقسمت الكتلة النيابية التي ورثها من والده على نفسها بأن ذهب سالم عبد النور وفؤاد طحيني الى التصويت لبشير، ثم لشقيقه أمين بعد اغتياله.

سلّم بإرادة عبد الحليم خدّام باختيار إلياس الهراوي رئيساً ترجمة لقرار الرئيس السوري بعد اغتيال رينيه معوّض عام 1989. إلا أنه صار – بعدما أضحى نائباً – على رأس المؤيّدين مع رفيق الحريري للتمديد لإلياس الهراوي عام 1995، فيما حليفه نبيه برّي على طرف نقيض منهما.

رفض ترئيس إميل لحود وقاطع وكتلته جلسة انتخابه عام 1998. المفارقة أن الزعيم الدرزي كان الوحيد الذي سمّى عام 1984 إميل لحود قائداً للجيش بعد إقالة إبراهيم طنوس، ولاقاه في الاقتراح نبيه برّي الذي لم يكن يعرف الضابط الماروني. إلا أن دمشق فضّلت ميشال عون مرشح أمين الجميّل.

تعيينه قائداً للجيش عام 1989، أطرى إميل لحود وأكثر في مديحه مستعيداً علاقة والده كمال جنبلاط بوالد القائد جميل لحود، ومذكّراً بأنه وراء توزيره عام 1966 وكان محسوباً على زعيم المختارة حينذاك بسبب نبض العروبة فيه. فجأة، تحلّل الإطراء والمديح عندما استعاد إميل لحود بالقوة عام 1993 من وليد جنبلاط قصر بيت الدين المحتلّ منذ عام 1983، وأعاده الى مالكه الأصلي الدولة اللبنانية. الأكثر إيلاماً في الزعيم الدرزي وإشعاره بالإهانة والضعف جَعَلَه يكنّ له البغض، إرغامه على إخراج تمثال كمال جنبلاط من ساحة قصر بيت الدين الى أي مكان آخر. بعد انتخابه رئيساً، صار يحلو لإميل لحود أن يصيّف هناك تحت نظر جاره اللدود في المختارة. رفض وليد جنبلاط تمديد ولايته عام 2004، واستقال وزراؤه الثلاثة من حكومة رفيق الحريري.

مع أنه ممّن لا يخفون كرههم انتخاب عسكري لرئاسة الجمهورية – ذلك ما استثناه كمال جنبلاط لنفسه بمجاراة فؤاد شهاب – إلا أن جنبلاط الابن سمّى ميشال سليمان رئيساً توافقياً بالتفاهم مع سعد الحريري وفؤاد السنيورة عام 2007. لم يُنتخب مرشحه إلا بكلفة غالية فقدت جدوى الترشيح وأحالته الى عرّاب آخر هو الدوحة، هي اجتياح حزب الله بسلاحه بيروت في 7 أيار 2008 واشتباكه في 9 أيار مع دروز وليد جنبلاط في عاليه وعند تخوم جزين – الشوف، ما هدّد المختارة بالذات، قبل أن ينحني الزعيم الدرزي مجدداً ويسلّم التفاوض مع حزب الله الى طلال أرسلان. من ثمّ أتى اتفاق الدوحة بميشال سليمان. في الولاية الجديدة هذه، أحدث وليد جنبلاط التحوّل المهمّ التالي منذ عام 2005. بانتهاء الانتخابات النيابية عام 2009، انفصل عن قوى 14 آذار من دون أن ينضمّ الى قوى 8 آذار، كي يُعدّ نفسه لأن يكون في الوسط بين الفريقين. تخلّى، للمرة الأولى أيضاً عن حليفه سعد الحريري وصار أقرب الى نجيب ميقاتي، مرجّحاً كفته في الهزيمة الأولى التي تضرب آل الحريري، عندما خسر سعد الحريري أمام نجيب ميقاتي في الاستشارات النيابية الملزمة. مع أنه رشح هنري حلو في حقبة الشغور الرئاسي عام 2014 بعد انتهاء ولاية ميشال سليمان، إلا أنه صوّت لميشال عون في نهاية المطاف.

في الاستحقاق الحالي، لا يطلب وليد جنبلاط سوى التفاوض مع حزب الله. يكاد يختصر الأفرقاء الآخرين به وحده. لا يسأل كثيراً عن المرشح، ولا مرشح له حتى، ما دامت موازين القوى على الأرض وحدها تدير نظام الحكم والشارع. يكفيه الحصول على ضمانتين فقط من أجل الجميع، لكنه يريدهما من الرئيس الجديد وبموافقة الحزب: مناقشة الاستراتيجيا الدفاعية ومن خلالها مصير سلاح حزب الله، ووقف نهائي للاغتيال السياسي بشتى أدواته.

في اللقاءات الأخيرة له مع مسؤولي حزب الله، اكتفى بالقول لهم إنه لن يجاري انتخاب رئيس على صورة ميشال عون يكرر التجربة نفسها. قال للحزب إنه لن يغدر به ويطعنه. لكنه يخطره سلفاً برفض موافقته على انتخاب رئيس يمثل فريق حزب الله.

قصة المختارة مع “الجمهورية اللبنانية” تختلف عن قصتها مع “لبنان الكبير”. في “لبنان الكبير”، أيام نظيرة جنبلاط، كان الانتداب الفرنسي وإميل إده والمطران أوغسطين البستاني بما يمثل ككرسي لموارنة الجبل ضمان الدور في مواجهة الخصوم. لذا لم تحتج الى جهد لمقاومة هؤلاء، وحافظت على موقع البيت الذي تقوده سيدته في مرحلة لم تعد، بفضل التحالفات، تقتصر على الشوف، بل طاولت الجبل كله حتى جبيل. كان “لبنان الكبير” الذي رفضه السنّة بعيد إعلانه، لا يزال أقرب ما يكون الى صورة مكبّرة عن المتصرّفية التي جعلت – أو كادت – الدروز بعد الموارنة أصحاب الامتياز الأول في إدارتها، وإن على رأسها متصرف عثماني مسيحي غير لبناني، لا يمتّ بصلة للأمراء ولا لبيوتهم التاريخية.

إبّان المتصرفية آنذاك، دولة جبل لبنان، تصالح الدروز مع الموارنة لنسيان حقبتَي 1840 و1860. بإعلان “الجمهورية اللبنانية”، ومن ثم الاستقلال، تغيّر كثيراً وجه الدولة عما كان “لبنان الكبير”، بأن راحت تبحث عن شركاء سوى أولئك الذين حكموا الجبل. ما إن توسّع الكيان، غدا من الضروري الأخذ في الحسبان الجغرافيا والديموغرافيا الجديدة على حساب التاريخ القديم. في الحقبة الجديدة عام 1943، انتقلت زعامة المختارة من الأم الى الابن. إحدى المرات النادرة يحصل الانتقال على الحياة. استعار كمال جنبلاط من الست نظيرة التحالف مع إميل إده وانخرط في مواجهة جديدة مع بشارة الخوري قبل أن يعثر في ذلك العهد على حليف قوي له، جاره في دير القمر، كميل شمعون.

مع أن فارق العمر بينهما يزيد عن عقد ونصف عقد من الزمن، وسبق الثاني الأول في المعترك منذ عام 1934، إلا أنهما سجّلا آنذاك أنموذجاً عن حليفين لم يخطر في بال أحد أنهما سيمسيان بعد سنوات قليلة، وإلى عقود طويلة، عدوّين. كانا يُوَزَّران معاً ويعارضان الرئيس معاً ويغادران حكمه، ويلعبان اللعبة نفسها في البرلمان الى حدّ أن يستجوبا الحكومة أو يوجّها إليها سؤالاً في لائحة واحدة مذ أن قادا مع غسان تويني الجبهة الاشتراكية الوطنية عام 1951، الى أوان حمل الرئيس على التنحي. مع أن جذور كليهما في صعودهما متناقضة، كميل شمعون دستوري وكمال جنبلاط كتلوي، إلا أنهما استقلّا بذواتهما وأصبح كل منهما عنوان حقب متوالية لا زعيمَي طائفتين فحسب.

لأن لبنان “الجمهورية اللبنانية” ليس “لبنان الكبير” بعدما نشأت الثنائية المارونية – السنّية، صار على كمال جنبلاط في ظل والدته حتى وفاتها عام 1951 أن يضع نفسه على طرف نقيض من النظام القائم. ظنّ بوصول كميل شمعون الى رئاسة الجمهورية عام 1952 أن الجبهة الاشتراكية الوطنية ستحكم، كي تحمله هو بالذات الى العودة بلبنان الذي يريده لنفسه ولطائفته كما لسائر اللبنانيين، لكن في تصوّره هو. لم يحدث ذلك أبداً بأن لمس الخيبة الأولى غداة انتخاب صديقه وحليفه بأن تخلّى عنه وأراد أن يحكم بنفسه وبمفرده. مذذاك لم يعد مستبعداً أن يفضي انفصال الرجلين الى كل ما سيرافق العهد، على أنه عنده صورة مكملة لعهد السلف، وصولاً الى “ثورة 1958” ثم في ما بعد العامل الفلسطيني في النصف الثاني من الستينيّات الى اندلاع حرب منتصف السبعينيّات، ولم يكن شعارها عند كمال جنبلاط سوى الانتقال بلبنان من نظام الى آخر، وإن بأداة فلسطينية هذه المرة.

قد يُفسِّر هذا المسار الشاق المجازف في شخصية استثنائية قلّما عرف لبنان نظيراً لها، انبثق فيه البيت والدار والطائفة من التاريخ، ما رواه كمال جنبلاط يوماً لناجي البستاني بعيد انتخابات 1968 وصعود “الحلف الثلاثي”. ترشح ناجي البستاني مرتين ضد لائحة كمال جنبلاط في الشوف عامَي 1968 و1972، وضد لائحة وليد جنبلاط في الشوف قبل أن يتحالف معه عام 2018 ثم ضد لائحته مجدداً عام 2022.

يروي ما لا يزال يدوّنه من ذلك الحوار مع الزعيم الدرزي الراحل: “دخل منرفزاً. فك ربطة عنقه. جلس وقال للتوّ: أبقاش تِنْحمل. سألته ماذا يقصد؟ قال: قيمتي أنا وزير أقليات في لبنان. أبقاش تِنْحمل. إقعد حتى نحكي تاريخ. إمارة الجبل لمَن كانت؟ لنا أم لا؟ رددت بالإيجاب. قال: أتى جدودكم من جنوب سوريا وشمال لبنان. كدّوا وتعبوا وتعلّموا. بدأوا مرابعين وصاروا مالكين وأتت الأديرة والمدارس. لكن كيف أخذوا موقعهم الأساسي؟ عرفوا أن يلعبوا على تناقضات القيسية واليمنية ثم اليزبكية والجنبلاطية، فصار كل منها يريد أن يكسب ودّهم. لكنكم أنتم عوقبتم من حيث أخطأتم فأضحيتم منذ عام 1943 لعبة ابتزاز سنّة لبنان لكم. صمت قليلاً ثم قال: أنا اليوم صرت وزير أقليات؟ أنا كمال جنبلاط قائد المدّ العروبي، رأس الحربة الناصرية، حاكم مسلمي لبنان رغم أنوفهم، لا أقبل أن تكون قيمتي في لبنان قيمة وزير أقليات. أنا في تكوين لبنان”.

تصرّف كمال جنبلاط على الدوام على أن النظام ظل أصغر من الكيان، ونظر الى كثيرين من السياسيين مجايليه أو في الأجيال التالية على أنهم بدورهم أصغر من النظام والكيان معاً. لذا غدا طبيعياً أن يكون في النظام ومقاوماً له وعدوّاً حتى. أن يُقدّم إليه ضمانات التوازن والمشاركة في السلطة ومعارضته ويقتصّ منه ويقف ضده ويحاول تغييره سلماً ثم يفشل. أن يهادن العهود وينقلب على الرؤساء. أن يُنظر إليه على أنه “صانع” هؤلاء من غير أن يكون كذلك مرة. إلا أنه كان حتماً أحد العاملين على تقويض ولاياتهم. أن لا ينظر بمهابة الى رئيس منتخب للجمهورية، ممن رافق على حياته ولاياتهم منذ اليوم الأول، ما خلا واحداً هو فؤاد شهاب. لا “الجورنالجي” شارل حلو – مع أن كليهما احترف الصحافة – ولا “القبضاي” سليمان فرنجية ولا “الموظف” إلياس سركيس.

لم يسعه أن يبكّل زرّ الجاكيت إلا أمام فؤاد شهاب، وأن تحفر في الذاكرة عميقاً تلك الصورة التي يسلّم فيها كمال جنبلاط منحنياً علم فخر الدين الى فؤاد شهاب الرئيس الجالس على مقعده. ليس سرّاً أن فخر الدين بطل الدروز، وإن لم يختلف عن أحفاده، عندما تطلّع الى الغرب وحالف توسكانا ضد الدولة العثمانية وانتهى إعداماً. أما بطل فؤاد شهاب فهو بشير الثاني الشهابي شقيق جدّ جدّ الرئيس الذي حرّض على قتل بشير جنبلاط جدّ جدّ كمال جنبلاط عام 1825.

لا يسع أي درزي، وليس كمال جنبلاط من قبل ولا وليد جنبلاط الآن وفي بيت المختارة في كل زمان، غفران “الجريمة التاريخية”، “الخطيئة الأصلية” ربما، سجلت أول جرح نازف في العلاقات الدرزية – المارونية. مع ذلك كان كمال جنبلاط أقوى حلفاء العهد الشهابي، مستعيداً معه معادلة القرن التاسع عشر: كما الإمارة لبشير الشهابي والشوف كله لبشير جنبلاط، في ولاية فؤاد شهاب كانت الدولة للرئيس والشوف المستقل وامتيازات الطائفة بدءاً بدائرة انتخابية واحدة لبيت المختارة.

هل ترى فصول انتخابات الرئاسة اللبنانية معه منذ كميل شمعون سوى ذلك؟ لم يُعطَ له أن يأتي برئيس يريده هو. لكنه نادى إما برحيله أو إسقاطه، وقلّما سهر على ولاية رئيس حتى نهايتها.