| ناديا الحلاق |
في كل ثانية، يمرّ عالَم مجهري لا يراه الإنسان بالعين المجردة، عالم تتراقص فيه جسيمات الغبار وحبوب اللقاح، وتسبح فيه كائنات حية دقيقة تعرف باسم الفطريات الهوائية.
هذه الكائنات الصغيرة تلعب دوراً بيئياً طبيعياً، إذ تساهم في تحلل المواد العضوية وتجديد التربة، لكنها في الوقت نفسه قد تتحوّل إلى تهديد صحي إذا ارتفعت أعدادها بشكل غير طبيعي، خصوصاً بالنسبة لفئات معينة من السكان الذين يعانون من أمراض مزمنة أو ضعف في المناعة.
لبنان، ببيئته المتنوعة بين المدن الكبرى والضواحي، وبظروفه المناخية المتقلبة، وبالاضطرابات الناتجة عن الصراعات والأحداث الأخيرة، يمثل حالة مثالية لفهم تأثير هذه الفطريات على الصحة العامة.
رغم وجود مؤسسات لمراقبة جودة الهواء، إلا أن البيانات التفصيلية المتعلقة بالفطريات غير متوفرة، ما يجعل مراقبة هذا النوع من التلوث غائبة بشكل فعلي.
ومع تزايد الاهتمام الدولي بموضوع جودة الهواء والصحة البيئية، أصبح من الضروري دراسة وجود هذه الفطريات في الهواء، وفهم الاختلافات بين منطقة وأخرى، وتأثير العوامل الخارجية مثل الغبار والأمطار والرطوبة.
هنا، جاء الدور التجريبي الذي قام به الدكتور سامر فاكهاني، الباحث في علم الميكروبيولوجيا، الذي حاول بعينيه أن يفهم الواقع البيئي المحيط به.
وقال فاكهاني، في حديث لموقع “الجريدة”: “ما قمت به ليس دراسة علمية كاملة بالمعنى الأكاديمي، بل تجربة استكشافية هدفها فهم الواقع البيئي ونِسَب الفطريات في الهواء”.
وأوضح فاكهاني أنه “لجأ إلى طريقة بسيطة متعارف عليها في علم الميكروبيولوجيا، حيث وضع المواد المخصصة لزراعة الفطريات داخل أطباق، وتركها مكشوفة للهواء منذ الليل حتى الصباح، ثم أعاد إقفالها”.
وتابع أن “هذه العملية نفّذت في مناطق مختلفة، بدءً من بيروت صولاً إلى ضواحي العاصمة وصيدا، قائلاً: “كُلّ هذه الأطباق كُشفت في الوقت نفسه تقريباً. وفي اليوم التالي وضعتها على حرارة دافئة وبدأت أراقب نمو الفطريات”.
وأوضح أن “الصورة التي عرضها سابقا تُظهر بوضوح اختلاف كمية الفطريات التي نمت على الأطباق بين منطقة وأخرى”.
ولفت إلى أن “وجود الفطريات في الهواء أمر طبيعي ومتوقع: “من الطبيعي جداً أن تكون النتيجة إيجابية لدى الجميع تقريباً، إلا في حال وجود نظام فلترة هواء عالي الفعالية. المشكلة ليست في وجود الفطريات، بل في الكميات وتفاوتها بين موقع وآخر”.
وكشف أنه “علمياً توجد طريقة أكثر دقة تعتمد على أجهزة شفط للهواء بحجم متر مكعب، حيث يُسحب الهواء عبر فلتر تُحصى عليه المستعمرات الفطرية. وبناءً على عدد الوحدات يُحكم على مستوى التلوث: “هناك حدود دولية تعتبر أقل من 150 ممتازاً، وتحت 500 مقبولاً، وتحت 1000 مؤشراً لارتفاع، وفوق 1500 مستوى عالٍ. هذه الأرقام تختلف بين بلد وآخر، ماليزيا تختلف عن كندا وتختلف عن معايير منظمة الصحة العالمية، لكنها تبقى ضمن الروح نفسها في التقييم”.
وعلق فاكهاني على الوضع في لبنان قائلاً: “لدينا في لبنان ما يُسمّى مراقبة جودة الهواء، لكنها لا تتطرّق إلى تفاصيل الفطريات ولا إلى الحدود المعتمدة للحكم على خطورتها، ما يشير إلى غياب أي مراقبة فعلية لهذا الجانب”.
وكشف عن خطورة ارتفاع الفطريات على فئات محددة، قائلاً: “الخطر الأكبر يهدد أصحاب المناعة الضعيفة: مرضى زرع النخاع والكِلى، مرضى السرطان الذين يتلقون العلاج الكيميائي، الأشخاص الذين يستخدمون أدوية مثبطة للمناعة، والمرضى الذين يأخذون جرعات عالية من الكورتيزون. حتى مرضى السكري في مراحله المتقدمة معرضون، خصوصاً إذا كانوا يعانون من جروح مفتوحة. كذلك تتأثر فئة مرضى الجهاز التنفسي كالربو والتهابات الجيوب المزمنة، إذ قد يزيد التحسس لديهم”.
وأضاف: “ما نقيسه نحن هو الفطريات الهوائية داخل المنازل. وفي حال كانت مرتفعة، يجب البحث عن السبب: هل هناك رطوبة؟ هل توجد عفونة في الجدران؟ داخل المنازل يمكن معالجة المشكلة إلى حدّ ما عبر تجفيف الرطوبة وتنظيف فلاتر المكيّفات بشكل دوري”.
إلا أنه أوضح أيضاً، أن الوضع مختلف حين يكون المصدر خارجياً “في التجربة الأخيرة، لاحظنا ارتفاعاً واضحاً في بعض المناطق، تحديداً في الضاحية وفي القماطية، مقدراً أن السبب يعود إلى القصف الإسرائيلي الذي أصاب الأبنية وحرّك الغبار، ما أدى إلى تطاير الأبواغ الفطرية الموجودة أصلاً في التراب، وهذا النوع من التلوث الخارجي لا يمكن للأهالي أن يفعلوا حياله الكثير.
ويشير إلى أن ظهور الفطريات في الهواء ليس حدثاً محصوراً بلبنان: “حتى في الدول الغربية، عند إجراء حفريات أو أعمال نبش واسعة للتربة، تزداد الفطريات في الهواء، وقد سُجلت حالات مماثلة في الولايات المتحدة”.
ويختم فاكهاني موضحاً أنه سيعيد التجربة مرة ثانية بعد هطول الأمطار: “سنكرّر الاختبار بعد المطر، وننتظر النتائج التي يفترض أن تظهر يوم الجمعة المقبل.














