| زينة أرزوني |
يبدو أن الضاحية الجنوبية تمتلك قدرة خارقة. مجرّد ذكر إسمها، يجعل بعض مقدّمي البرامج يتصرّفون وكأنّهم اكتشفوا “قارة الرعب” الثامنة!
فجأة، يتحوّل “الماركيتينغ” الإعلامي إلى “حرب حضارية”، ويصبح المرور بسيارة “مفّيمة” على طريق المطار، مساوياً لرحلة بحث أنثروبولوجية في مخيمات قبيلة مجهولة!
النتيجة: خلطة منسّقة من الجهل، الاستعلاء، وقليل من الـ”Copy/Paste” من ملفات الغرب القديمة.
حين كان أهل الضاحية يعيدون بناء بيوتهم حجراً على حجر بعد العدوان الاسرائيلي عليها، كان البعض يتدرب على إعادة تدوير جملة واحدة “هول ما بيشبهونا”، ويسوّقون لنكتة من الدرجة الثالثة تحكي عن “ثقافة الموت”. وإذا اجتهد صاحب هذه النكتة أكثر لكان استطاع تحويلها إلى فيلم بعنوان “عودة المومياء”…
“فتوى جغرافية”
بعد كل حملات شيطنة الضاحية وأهلها، أطلّ صاحب الـPrime Time، ليصدر “فتوى جغرافية”. فهو أخبر بكل ثقة أنه زار الضاحية ووجدها تشبه شوارع إيران. على أساس أنه يتمشى أسبوعياً في شوارع مدن مشهد، أو أصفهان، أو شيراز، ويحفظ زواريب تبريز وماكولا عن ظهر قلب!
ولكن هل لمن يمتلك مهارة “الاستفزاز الذكي” الذي يدفع الضيف أمامه إلى البوح أكثر مما كان ينوي، والذي يزيد من حدة سؤاله عندما يشعر أن ضيفه يحاول التلاعب بالسردية أو التهرب، أن يخبرنا كيف استطاع رؤية شوارع الضاحية من خلال زجاج أسود يمنع رؤية حتى لون الطقس. ومع ذلك، أصدر حكماً عمرانياً، اجتماعياً، نفسياً، وربما مناخياً على منطقة بأكملها.
والأطرف، أنه نسي أن المقابلة التي كان سيجريها قبل عشرات السنوات مع الأمين العام لـ”حزب الله” آنذاك السيد حسن نصر الله، يتطلب إجراؤها أصلاً ترتيبات أمنية لا تسمح له حتى برؤية إشارة المرور، فكيف رأى “إيران”؟ على الأرجح من خلال خبرته الروحية في التحليل!
يا رجل… على الأقل إعرف أين كنت قبل أن تكذب كذبتك على منصة إعلامية، تحتاج إلى “دفشتك” لتصبح تراند.
من سيارة “مفّيمة” إلى صناعة الخوف على الهواء،
“فارس الشاشة” التي لا تبخل على جمهورها يومياً بحملة تحريضية ضد “حزب الله” وبيئته، قرّر هو شن حملة جديدة على الضاحية من خارج الاستوديو الذي يبث من خلاله سمّه القاتل المغلف بالجمل المدافعة عن البيئة الصادر قرارها، وكأنه في هذه المقابلة كشف للتو عن “وحش أسطوري”! كيف لا؟ مهمته صار وقتها اليوم، ألا وهي إنقاذ لبنان عبر تفكيك هذا “الوحش” بالكلام للناس والكشف عنه، كلام مكسوّ بالاستعلاء، مُطعَّم بالجهل، ومنكّه بعبارات منسوخة من أدراج المكاتب لا من ميادين الحياة.
من خلال نبرة صوته العالية المُطعمة بنوع من التعجب، أراد إيصال الانطباع وكأن الضاحية التي زارها كوكب منفصل عن لبنان، أن يرسم صورة في مشهد من العصور المظلمة، وأن يضع ناسها على طاولته ليقطّعهم بمهارة ساحر قديم يصفق له الجمهور دائماً بعد كل وصلة.
أما محاولاته أن يُظهر نفسه متأثراً بمصير الجنوبيين، فهنا أخفض صوته وتحدث بـ”حنّية”، ليعطي انطباع المتعاطف من نوع خاص: تعاطف مُعلّب، عليه ملصق “صارحوني.. بس خلّوني هاجم حزب الله عالقاعد”… إنها نوع من الإنسانية السائلة التي تُستعمل فقط عندما يحتاج البرنامج إلى جرعة عاطفية قبل الفاصل الإعلاني.
مع العلم أنه، وبطقوسه الأسبوعية في التحريض، لا يحتاج أن يشتم على منصة، فيكفي أن “يفرك” عباراته قليلاً في مقدّمته كي تفوح منها روائح الاحتقار من كل حدب وصوب. ثم يأتي جيشه من “المعدّين” ليحجزوا مقاعد لمجموعة من المنتفعين الذين يتقنون التصفيق المأجور ورفع الصوت حسب الطلب: أريد مشجعين؟ عشرة دولارات. أريد مهاجمين؟ عشرون دولاراً.
ولكن لماذا إذاً اختار أمير الاستوديوهات أن ينزل إلى منصة إلكترونية ليشيطن الضاحية؟
بكل بساطة: لأن الفضائح هي العملة الصعبة الآن، ولأن الحديث عن “حزب الله” وبيئته هو أقصر طريق لتمديد صلاحية النجومية، ولأن المنصّة تحتاج إلى منقذ، ومن غيره يستطيع أن يقدم لها هدية من هذا الوزن “ضاحية كاملة على طبق من شيطنة”.
المفارقة أنّ الرجل المعروف بنشاطه الجنوني في التحضير لحلقته الأسبوعية، بدا وكأنه خرج من منزله على عجل، ونسي رأسه على الطاولة. لم يبحث عن تاريخ الضاحية، لم يسأل عن ناسها، لم يكلّف فريقه المكوّن من عشرات المساعدين بصياغة ملف مُحكم عن الضاحية، وكأن “جيشه التحريري” كان في إجازة مدفوعة أيضاً.
“جيش الإعداد في إجازة”
هذا “الجيش” من المعدين نسي ـ أو تناسى ـ هذه المرة كشف الحقيقة، وهي أن الضاحية تشبه لبنان أكثر من لبنان نفسه. لديها أعلام حزبية، وصور زعماء، مثل كل مناطق البلاد، من أقصى الشمال إلى آخر قرية في البقاع.
لكن، على الأقل لم تُحَط بأسلاك شائكة تمنع الفقراء من دخولها، كما هي حال زواريب الـ”نوفو ريش”
والمسؤولين الذين يعيشون خلف بوابات إلكترونية أعلى شأناً من الدستور.
ولا هي منطقة فُرزت قسراً بين “غربية” و”شرقية”، ولا منطقة عاش سكانها هاجس الذبح على الهوية. الضاحية لم تُغلَق في وجه أحد، ولم تعامل اللبناني كما يعامل بعض المسؤولين مواطنيهم من خلال بطاقة تعريف وطبقة اجتماعية وشكل السيارة قبل الإسم!
ومع ذلك، يأتي صاحب “الرايت العالي” ليضع منطقةً كاملة وشعبها عند حافة مقصلته مقصلة بلا شفرة أخلاقية ولا عدالة اجتماعية ولا حتى إنسانية.
المخضرم إعلامياً، والذي يجالس النواب والوزراء والرؤساء في جلسات وساطة أو صفقة، لم يبحث في تاريخ هذه المنطقة ولا في جذور أهلها الضاربة في الأرض منذ أكثر من 1400 عام. لم يلتفت إلى أن أبناءها يجلسون اليوم على مقاعد الجامعة الأميركية، واليسوعية، واللبنانية الأميركية، والبلمند، تماماً كما يجلس أبناء أي منطقة أخرى. وأن أطفالها يدخلون أفضل المدارس، ليس لأنهم “محسوبون على أحد”، بل لأن أهاليهم ينحتون في الصخر ليحصدوا منح التفوق في الشهادات الرسمية.
ولمن لا يزال يظن أننا “كلنا من خرّيجي الحوزات”، فليكلّف نفسه اتصالاً واحداً بمكاتب شؤون الطلاب في الجامعات التي يحب ترداد أسمائها ليثبت عكس ما يشيعه.
هناك، في اللوائح الرسمية، سيعثر على آلاف الأسماء التي لا تعرف قُم إلا في عداد نشرات الأخبار.
نحن شباب نعشق الحياة، نذهب إلى السهرات والبارات والنوادي الليلية، ثم نقف على سجادة الصلاة بضمير مرتاح. هذه ليست مفارقة، بل قدرة على الجمع بين الدنيوي والروحي، بين الفرح والإيمان، من دون أن نشعر أننا بحاجة لموافقة أحدهم.
ولمن يعتقد أنّ ضاحية أشرف الناس، لم تتشكل إلا بعد أن استلم السيد حسن نصر الله الأمانة العامة لـ”حزب الله”، فليسأل أهلها الأصليين قبل أن يدسّ في حديثه سمّاً بنبرة القرف. سيقولون له إن البساتين كانت تمتد على مساحات واسعة، وإن العائلات كانت تذهب إليها في عطلة نهاية الأسبوع لـ”البيكنيك”. سيخبرونه أنّ هناك ضاحية سبقت كل هذه الأوهام، وأنّ صورتها ليست حكراً على أحد.
“ليس لهم علاقة بمؤخرتي”
أما عن “السواد” الذي يتخيّله البعض يخيّم على أبنيتها، فهذه أيضاً كذبة أخرى. في الضاحية تمشي المحجبة إلى جانب صديقتها بـ”الميني جيب” و”الديكولتِه”، بلا عقد نقص ولا حساسية. رجالها ليسوا كلهم أصحاب لحى، ونساؤها لا يرتدين جميعاً “الشادور”، وإن فعلن، فهل صار الزي الديني تهمة؟ وهل “الشادور” جريمة والزي الرهباني قداسة؟ أليس الحرص على “عدم التدخل” في ما لا يعنيكم هو ما ترفعونه شعاراً؟ فكيف يتحوّل اللباس
إلى شأن عام حين يتعلق بالضاحية فقط؟
فليشرح لنا صاحب المقولة الشهيرة “ليس لهم علاقة بمؤخرتي”، التي رددها مع ضيفته النائبة في إحدى حلقات برنامجه السياسي، فليكمل جرأته ويقول الحقيقة كما هي إن استطاع.
كل هذه الأسئلة تُطرح لا لتبرئة الضاحية، فهي ليست بحاجة لمن يدافع عنها بل لكشف هشاشة الرواية التي يحاول البعض فرضها عليها.
هؤلاء الذين يريدون حصرها في قالب واحد، لصقها بصورة واحدة، وكأنها ليست مجتمعاً متكاملاً يضم طبقات وثقافات وتناقضات وتنوعاً لا يقل عن أي منطقة أخرى في لبنان.
الضاحية ليست قديسة ولا شيطانة. هي ببساطة منطقة يسكنها بشر. بشر يحبون الحياة، ويتنفسون هواء البلد نفسه، هي منطقة تُقصف وتُدمّر ثم تعود لتفتح مطاعم فاخرة ومحال راقية واقتصاد ينبض بالحياة، تشبه أمّاً زرعت بالحجر ورداً، ورجالاً ونساءً بنوا بيوتهم قبل أن تُبنى تقارير المحللين.
لكن يبدو أنّ البشرية تنقص في بعض العيون، لا في الضاحية. وأنّ المشكلة ليست في المكان، بل في من يُصرّ على رؤيتها من وراء سياج، ويتفاجأ حين يكتشف أن الناس خلف هذا السياج ليسوا وحوشاً، بل يفوقونهم سنوات ضوئية بالانسانية.














