فراغ رئاسي علم لبنان ـ قصر بعبدا
تصوير عباس سلمان

خلط الأوراق.. خلط بالمستقبل والمصير!

| جورج علم |

بدأت الحلقة ما قبل الأخيرة، من المسلسل اللبناني الدرامي “الفراغ الرئاسي”، في باريس، وتحديداً على هامش الإحتفال الكبير بتدشين كتدرائية “نوتردام دو باري”، حيث خصّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضيفه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب باستقبال كان مميّزاً بالدفء والحفاوة.

تطرّق اللقاء المطوّل الذي جمعهما إلى الكثير من الملفات الساخنة في العالم، وصولاً إلى الشرق الأوسط، وضمناً الملف الرئاسي في لبنان.

وكان البطريرك الكاردينال بشارة الراعي على مقربة من الإحاطة الرئاسيّة، كونه كان ضيف الرئيس الفرنسي للمشاركة في الإحتفالات المقرّرة لتدشين الكتدرائيّة.

خرج إسم قائد الجيش العماد جوزاف عون من باطنة تلك الإحاطة، بمباركة البطريرك الماروني الذي لم يبدِ أيّ تحفّظ على الإسم.

ومرّ البطريرك، في عظة الأحد، على تلك الإحاطة، مرور نسيم الصباح الذي يخطف من الزهر رحيقه ويمضي دون أن يترك أثراً.

قال إن “الرئيس ماكرون شرّفه بالجلوس إلى المأدبة بمحاذاة الرئيس ترامب”، ولم يزد، وترك للآخرين حريّة التحليل والإستنتاج.

وتندلق أيام معدودة على هذا الحدث، قبل أن يخطف رئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط الأضواء. يزور باريس. يلتقي الرئيس ماكرون. يعود إلى بيروت. يتشاور مع الرئيس نبيه برّي. يجمع نواب كتلة “اللقاء الديمقراطي “. يصدر بياناً عقب الإجتماع، يعلن في ختامه ترشيح قائد الجيش العماد جوزاف عون لرئاسة الجمهوريّة.

ليس من مزيد. ولا حتى من إضافات، ذلك أن “أمراء الطوائف”، ومنذ أيلول 2022، (بدء الموعد الدستوري لإنتخاب رئيس للجمهوريّة)، ولغاية اليوم، منخرطون بسياسة الخلط، المنتسبة إلى فعل خلط، يخلط، إخلط.

بعد إعلان جنبلاط عن ترشيح قائد الجيش، بدأت عمليّة خلط الأوراق، وخلط التحالفات، وخلط المواقف، وخلط الأسماء، وخلط المواصفات، وخلط الأولويات والمنطلقات التي يجب أن ينطلق منها العهد الجديد لإعادة بناء الوطن والمؤسسات.

المشهد مثير. فوعان للدبابير من كل حدب وصوب. والسباق محموم وفق الماراتون الرئاسي نحو التاسع من كانون الثاني المقبل، بين قائل بإنعقاد جلسة الإنتخاب حتماً، وبين التأجيل حكماً، مراعاة للمستجدات في لبنان والمنطقة، واكتشاف ملامح وجه الجنوب ما بعد انقضاء فترة الستين يوماً، وما سيكون عليه وقف إطلاق النار، وهل يصمد، أم يهتز لتحقيق أغراض محدّدة تتطلّب قدراً من السخونة! وضرورة التأكّد من صدقيّة وفاعليّة هيئة الرقابة، برئاسة الجنرال الأميركي. وإلتماس مدى الجديّة في وضع مندرجات القرار الدولي 1701 موضع التنفيذ. ومدى إلتزام الإحتلال الإسرائيلي بتطبيق بنوده!

هناك متغيّر قد طرأ على الإلتزام الإسرائيلي المنصوص عنه في إتفاق وقف إطلاق النار. يريد ربط مساحة الجنوب بمساحة الواقع الجديد الذي فرضه ميدانيّاً، وبقوة السلاح، وجلافة العدوان، إنطلاقاً من هضبة الجولان وصولاً إلى سفوح جبل الشيخ.
ولا يمكن التعاطي مع هذا الخطر من باب الإحتمال، بعدما بدأ العدو بفرضه كأمر واقع، وهو الذي أوفد بعثة رفيعة المستوى إلى إدارة دونالد ترامب لمفاوضتها حول اليوم التالي في سوريا ولبنان إنطلاقاً من جبل الشيخ وصولاً إلى صخرة الناقورة.

وما يبنى عليه خطير للغاية، بحيث تكون السيادة مضمونة شكلاً، بإنتشار الجيش وقوات “اليونيفيل”، ومصادرة فعلاً من قبل أجهزة مخابراتيّة متطوّرة، مربوطة بغرفة عمليات مركزيّة في تل أبيب، وبالتنسيق والتعاون والتفاهم مع الراعي الأميركي. وهذا ما يحوّل التاسع من كانون المقبل، موعداً على قدر كبير من الأهميّة الوطنية، يقضي بضرورة إنتخاب رئيس للمباشرة في ورشة تحصين الوطن ضدّ المسلسل الإسرائيلي الهادف إلى القضم، والهدم، والتفتيت.

ويبرز تحدّ آخر على درجة كبيرة من الخطورة، يتصل بما يعدّ لسوريا من قبل الإسرائيلي ـ الأميركي من جهة، والروسي ـ التركي من جهة أخرى، دون إغفال الإيراني، والدول الأخرى الواقعة على خط الزلزال هذا، وفي الطليعة لبنان.

هناك الخطاب الهادىء، المعتدل، لرئيس “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع، يقابله الهاجس المزروع في النخاع الشوكي للدول صاحبة الأغراض، والمصالح، والتي تتوجّس من حكم الفصائل، وصدقيّة إلتزامها بالثقافة الأصوليّة، عقيدة ونهجاً وممارسة. والدليل أن الخطاب الرسمي المعلن منحوت نحتاً بأدبيات الإنفتاح، والعزم بتحقيق الوئام، والسلام، يقابله فيض من الممارسات المقلقة في العديد من المدن والمحافظات السوريّة بإسم “الثورة”، و”الفتح الجديد”!
وتوجد مساحة من الإلتباس، يعزّزها التعاطي الدولي المغرض تحت شعار تقديم النصح، والعون، والمؤازرة، لطي صفحة

الماضي، وفتح أخرى جديدة على الحاضر، والمستقبل من دون ضمانات تذكر يمكن الركون لها، والبناء عليها. فالأميركي يفاوض سلطة الأمر الواقع، ويرفع في الوقت عينه عديد جنوده في الشمال السوري من 900، إلى ما يزيد عن 2000 عنصر، بذريعة محاربة “داعش”.

لماذا كلّ هذا الحشد؟ وما هي الضرورات والخلفيات؟.. لا جواب!

الروسي إنسحب، ولم ينسحب من قاعدتي طرطوس وحميميم. ويقول بأنه على تواصل مع دمشق، وينسّق مع أنقرة، ولم يقطع الصلة بمسار “آستانة”، والقرار النهائي عند الرئيس فلاديمير بوتن الذي يعاين المستجدات، ويحتفظ بحريّة المبادرة.

ويخطّط التركي بما يوازي حجم نفوذه وتاثيره على الداخل السوري. يرتاح إلى خطاب الشرع، لكن ما يقلقه هو التحالف الأميركي مع “قوات سوريا الديمقراطيّة”. لا يريد أن يرى “قسد” في الموقع المؤثر في الشمال السوري، يسعى إلى الحدّ من الأخطار التي تشكّلها على نفوذ أنقرة، وأمنها القومي.

ويرى بنيامين نتنياهو أن ما يتوافر لنهجه العدواني التوسعي في الداخل السوري، لا يتوافر إلاّ كلّ 100 عام. وهذا وحده يشكل جرس إنذار “للخلاّطين” في الداخل اللبناني. الظرف مصيري، وترف خلط الأوراق، والتحالفات لا يطفىء الشرر، ويبعد الضرر.

المطلوب نصاب، وإنتخاب في التاسع من كانون، وكلّ تأخير إنما هو تلاعب بالمصير.