| جورج علم |
بلغ الإعصار الإسرائيلي بادية الشام. إجتاح الخطوط الحمراء. تخطّى المحاذير. إستهزأ بالمعقول واللا معقول. لا شيء يصدّ في الطريق، أو يردع. دمّر البنى العسكريّة التحتيّة والفوقيّة. هدم مراكز الأبحاث والدراسات. قصف المطارات والمرافىء وحظائر الأسلحة. وتشير البوصلة إلى أنه في الطريق نحو كيانات أخرى. الهدف تشكيل الشرق الأوسط الجديد، طبقاً للمواصفات المطلوبة.
صاحب المشروع أميركي. المتعهّد إسرائيلي. والتنفيذ وفق دفتر الشروط المبرم بين الجانبين، مع بعض الإستثناءات.
تصاب مواصفات اليوم التالي في سوريا بدوار الحيرة، والذهول. والطريق المؤدي إلى الهدوء والإستقرار، ضيّع سبيله، وسلك دروباً ومنعطفات خطرة. أطنان من المواقف الدوليّة المبعثرة، هنا، وهناك، وهنالك، تتحدث عن السيادة، والديمقراطيّة، وحقوق الأقليات. يقابلها أطنان من القنابل الإسرائيليّة، والمواد المتفجّرة التي تغيّر الأحوال، وتبدّل المعالم، وتدفع بالخريطة السوريّة نحو المجهول.
لم يتمكّن الرئيس التركي رجب الطيّب أردوغان من قطع قالب الحلوى إحتفاء بسقوط دمشق في حضن “هيئة تحرير الشام”. الشمال السوري يقلقه، “قوات سوريا الديمقراطيّة” تقضّ مضجعه. جاءه وزير الخارجيّة الأميركي أنتوني بلينكن إلى عقر داره، لكن “الصفقة” لم تتم. لا يمكن للإدارة الأميركيّة أن تتخلّى عن دعم “قسد”. مصالحها فوق أيّ إعتبار، والحجّة عندها تتخطى “داعش”، وضرورات التصدّي لها، لتلامس الحرص على آبار النفط، ومنابع الطاقة، وحماية النقاط الإستراتيجيّة في تلك المنطقة. ووفرة 900 جندي أميركي، قد تتحوّل إلى تسعة آلاف، أو تسعين ألفاً، خلال فترة وجيزة، إذا ما إقتضت الضرورات الميدانيّة ذلك.
ما أراده بلينكن من زيارته، هو تذكير أنقرة بأن تمدّد “الثورة” لا يعني تمدّد النفوذ التركي فوق الجغرافيا السوريّة. المتعهّد الإسرائيلي بالمرصاد، وحقّق لغاية الآن أهدافاً تستدّر تداعيات. دمّر الجيش السوري، وأعاد إلى الذاكرة ما أنجزه الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش عندما غزا العراق، حيث سارع إلى تسريح الجيش، وإفراغ الثكنات، كي يستتّب له الأمر، وما فعله الأميركي في بلاد ما بين النهرين، يكرّره بنيامين نتنياهو في سوريا، المشهد متقارب، وربما الأهداف المبيّتة أيضاً؟
يحدث كلّ ذلك خلال المرحلة الإنتقاليّة بين إدارة أميركيّة تغادر، وأخرى تستعد للحلول مكانها، وكأن الإعصار المدوّي في سوريا يجب أن ينطلق بعصفه نحو أمكنة أخرى، يجتاح محور الممانعة، أو ما تبقّى منه، خلال الأسابيع الفاصلة عن موعد 20 كانون الثاني المقبل، عندما يجلس دونالد ترامب على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض.
ويحتسب لبنان، الرسمي والشعبي، بقلق، ما يجري حوله، وهو لا يزال في مرحلة حبس الأنفاس، يعاين بإهتمام وقف إطلاق النار في الجنوب، وما يتخلّله من خروقات إسرائيليّة، ومن صمت مريب يساور هيئة الرقابة المشرفة على تنفيذه، برئاسة الجنرال الأميركي.
ويفضي الواقع الميداني إلى الربط ما بين الجنوب، وهضبة الجولان، والمشاريع التي ينفّذها الإسرائيلي بدراية أميركيّة، لمصلحة المخطّطات التفتيتيّة.
في الجولان، ينشط بنيامين نتنياهو لتوسيع هامش الهيمنة بإحتلال مساحات واسعة من الأراضي، بما فيها المنطقة العازلة، والسفوح المترامية لجبل الشيخ، التلال المشرفة على العاصمة دمشق، وإطلاق ورشة بناء مستعمرات جديدة بحجّة زيادة السكّان، وتوفير ضمانات أمنيّة للكيان المحتل.
ويقوم مشروع الربط على قواعد ثلاثة:
الأولى ـ غرفة عمليات مهمتها الإشراف على الوضع الأمني إنطلاقاً من الجنوب، إلى هضبة الجولان، والتأكد من وضعيّة المسارات اللوجستيّة، بحيث تبقى المنطقة بتضاريسها الصعبة تحت مجهر اليقظة والتنبّه لأي تتطوّر ميداني قد يحصل.
الثانية ـ تجهيز الأنفاق، والتضاريس البارزة، بتكنولوجيا حديثة، لرصد التحرّكات، والربط بين ما يجري على الأرض، بالعدسة اللاقطة في غرفة العمليات بهدف التدخل الإسرائيلي السريع عند حصول أي طارئ.
الثالثة ـ تنفيذ بنية تحتيّة عسكريّة تربط ما بين الجنوب والجولان، وتوفر ما يكفي من إستحكامات، وطرق إمدادات، ومواصلات، وإتصالات، وحفر خنادق، وغيرها من الضرورات اللوجستيّة، لتكريس أمر واقع، واحتلال يدوم بسيطرة مضمونة أميركيّاً، وربما دوليّاً إذا ما تطابقة المصالح.
إن مهلة الـ60 يوماً لتنفيذ وقف النار، وتحقيق الإنسحابات، هي “مقدّسة” بالنسبة للبنان، ولكنّها “مطّاطة” وفق الحسابات الأميركيّة ـ الإسرائيليّة، وخاضعة للمعادلة الميدانيّة حول ما تحقّق من بنك الأهداف، وما يفترض إنجازه على الأرض بما يخدم الأهداف العليا للإستراتيجيّة الجديدة المتصلة بمشروع الشرق الأوسط الجديد، إنطلاقاً من غزّة، مروراً بلبنان، وصولاً إلى سوريا، وربما إلى دول وكيانات أخرى في المنطقة.
ويرفض لبنان كل ما يمس بالسيادة، ويعارض سياسة الكيل بمكيالين، ويشتكي الخروقات الإسرائيليّة، والاعتداءات المتكرّرة لاتفاق وقف النار، لكن حدود إحتجاجاته تنتهي عند بوابة القائد الأميركي لهيئة الرقابة، ولا تتعداها، وإن حصلت تطورات، أو تحديّات نافرة، فحدودها شكوى إلى الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، لأخذ العلم والخبر، ومن باب تسجيل موقف رفعا للعتب.
بإمكان اللبنانيّين أن يطوّروا وسائل الدفاع عن مصالحهم، وسيادتهم على أرضهم، بالطرق الدستوريّة والقانونيّة والدبلوماسيّة لو حسموا أمرهم، وحددوا ألوياتهم، وخياراتهم، ولكن من أين نأتي بالشهد إذا كان القفير دبابير متنافرة، والروض يباس؟!