/ علي حيدر /
شكّل “طوفان الأقصى” متغيّراً إستراتيجياً مفصلياً في حركة الصراع، دفع العدو إلى محاولة احتواء مفاعيله عبر شنّ حرب على قطاع غزة. وأسهبت تقارير أميركية وإسرائيلية في الإشارة إلى مداولات شهدتها مؤسسة القرار السياسي والأمني في إسرائيل، ومع واشنطن، حول إمكانية استغلال هذا الحدث لشنّ حرب على حزب الله. ومن يعرف كيان العدو والمنطق الذي يحكم خياراته فلن يُفاجأ بمثل هذا الطرح الذي يتّسق مع أولوياته بضرورة التخلص من حزب الله باعتباره التهديد الإستراتيجي الأول، بحسب التوصيف الرسمي لجيش العدو. كما أن منطق توظيف أي حدث في اتجاه ساحات أخرى، أمر مألوف لدى كل الأطراف الدولية والإقليمية.
طرح هذا الاقتراح، في هذا التوقيت، يعود إلى فكرة وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت وعدد من كبار ضباط الجيش والمنظومة الأمنية، باستغلال الحضور العسكري الأميركي المباشر واستعداد الجمهور الإسرائيلي لتقديم خسائر بفعل التعبئة الداخلية نتيجة التداعيات الضخمة لـ«طوفان الأقصى»، وتوظيف كل ذلك لمعالجة التهديد الذي يمثّله حزب الله، قبل الانتقال إلى المقاومة في قطاع غزة، انطلاقاً من تقديرات بأن ذلك قد يساهم في إضعاف المقاومة في فلسطين.
ويكشف هذا الطرح الذي لا يزال يتردّد صداه في الساحة الإسرائيلية أن عدم حصول توافق عليه لم يكن أمراً مسلّماً به، بل تبلور نتيجة تقديرات فرضها حضور قوة المقاومة لدى جهات القرار في تل أبيب وواشنطن، وإدراك أن خياراً كهذا سيؤدي إلى توسيع نطاق الحرب والتدحرج نحو مواجهة كبرى في المنطقة.
وبالتالي، فإن عدم تعرّض لبنان لهذا السيناريو في لحظة جنون إسرائيلية لم يكن ليتحقق لولا حضور قدرات المقاومة وتصميمها وإرادتها لدى الجهات المختصة في تل أبيب وواشنطن. والخصوصية الإضافية لهذا الإنجاز أنه يصبّ في معركة دعم المقاومة في فلسطين. والأهم أن المعارضة الواسعة لتوجيه ضربة وقائية إلى حزب الله في لبنان، ووصف مؤيّديها بالحماقة، يعمّقان دلالة الردع الإستراتيجي للمقاومة.
لم يقتصر ردع المقاومة، في ضوء المتغيّرات المتلاحقة التي تشهدها فلسطين، على تجنيب لبنان حرباً يبادر إليها العدو، بل فشلت رسائل الردع الأميركي والإسرائيلي أيضاً في ثنيها عن الدفاع عن أمن لبنان (بالمعنى التكتيكي) ودعم القضية الفلسطينية ونصرة المقاومة في غزة. وتجلّى ذلك أيضاً في منع العدو من إحداث تغيير في قواعد الاشتباك، إذ تمّ ردعه عن محاولة استهداف العمق اللبناني بمستوياته المتعددة، رغم الاشتباك “المفتوح” على الحدود. ولم يكن ذلك ليتحقق إلا نتيجة إدراك مؤسسات القرار السياسي والأمني الإسرائيلي أن حالة “الجنون” التدميري لن تثني حزب الله عن الرد التماثلي على أي تجاوز لخطوط محدّدة حتى لو تطوّرت إلى أخطر السيناريوهات.
بتعبير آخر، نجح حزب الله، حتى الآن، في فرض خيار عملياتي شكَّل تطوراً نوعياً تحت سقف معادلة الردع التي سبق أن أرساها، وفي الوقت نفسه حماية العمق اللبناني. ولا يعني ذلك إغفال حقيقة أن هذا الإنجاز لا يزال مفتوحاً على متغيّرات متنوّعة، كون المعركة مستمرة، إلا أن المقاومة فرضت اتجاهاً يصبّ في مصلحة لبنان وفلسطين، فكيف إذا ما اقترن ذلك بمتغيرات إقليمية تصاعدية لمصلحة محور المقاومة.
الفشل الأميركي
صحيح أن الحشد العسكري الأميركي والأطلسي المباشر هو من تداعيات «طوفان الأقصى»، إلا أنه تحوَّل أيضاً إلى متغيّر مؤثّر في مجرى الأحداث من بوابة محاولة بلورة معادلات تهدف إلى حماية الكيان الإسرائيلي، والتأثير في خارطة التحولات الإقليمية على أمل أن تكون لها تداعياتها في كل ساحة إقليمية ومن ضمنها لبنان. وفي هذا الإطار قرنت الولايات المتحدة تعزيز حضورها العسكري البحري، بتهديدات من كل الطاقم السياسي والعسكري بدءاً من الرئيس جو بايدن لأطراف محور المقاومة في حال تدخّلت في المعركة. وبذلت الإدارة الأميركية جهوداً حثيثة لانتزاع موقف من حزب الله بعدم التدخل، أو حتى استيضاح سقفه العملياتي، باءت جميعها بالفشل رغم كل الحشد الأميركي البحري.
في ضوء ذلك، شكّلت العمليات التي ينفذها حزب الله حماية للبنان ودعماً للمقاومة في غزة إسقاطاً لكل التهويل الأميركي، وأحبطت الرهان على أن يؤدي الحضور العسكري الأميركي المباشر إلى فرض معادلة في مواجهة حزب الله – وبقية أطراف محور المقاومة – بعدما ثبت عجز العدو الإسرائيلي عن ذلك. ومن أبرز دلالات هذا البعد أنه حال أيضاً دون فرض معادلة جديدة (من البوابة الأميركية) تؤدي إلى تأسيس مسار جديد في المنطقة ولبنان.
كشف أداء قيادة المقاومة في مواجهة الأميركي والإسرائيلي معاً، على وقع المتغيّرات المتتالية، عن شجاعة وحكمة في القرار والأداء. ومع الوقت سيصبح هذا البعد أكثر جلاء ووضوحاً لأن الأميركي هو الذي يدير الحرب وحدَّد أهدافها ووتيرتها وضبط ساحتها وأوضح قيودها. ومما لا يحتاج إلى استدلال أن التأسيس لتقويض المعادلة الأميركية في الساحة الإقليمية، شرط رئيسي لإسقاط أهداف الحرب الإسرائيلية على غزة، ومن دونه لن يكون ذلك متاحاً.
تعزيز معادلات الردع الإقليمي لمصلحة محور المقاومة، حتى الآن، هو نتيجة طبيعية لما تقدّم من إنجازات، إلا أنه يشكل أيضاً قاعدة ومنطلقاً لمزيد من الإنجازات المتصاعدة وسداً منيعاً أمام محاولات الأميركي والإسرائيلي إحداث خرق فيه. ويشكل أداء المقاومة العملياتي على الحدود مع فلسطين المحتلة، إلى جانب ما تشهده ساحات محور المقاومة في اليمن والعراق وسوريا، تأسيساً للارتقاء نحو تغيير جذري في البيئة الإقليمية، إن تطوّرت الحرب القائمة نحو سيناريوهات أكثر خطورة على المقاومة في فلسطين وغزة.
هامش عملياتي مفتوح
تعقيدات المشهد الميداني والإقليمي والتداخل بين الساحات، وتحديداً بين القضية الفلسطينية والساحة الإقليمية، كل ذلك ينطوي على فرص وتهديدات، وعلى قيود ومخاطر، تؤثر كلّها في بلورة الخيارات العملياتية لكل طرف من الأطراف. لذلك فإن نجاح المقاومة في فرض هامش عملياتي مفتوح على سقوف ومستويات متعددة، يشكل إنجازاً نوعياً ستتضح معالمه في ضوء إدراك مفاعيل هذا التداخل في اتجاه الفرص أو القيود والمخاطر. وهو أمر برز على ألسنة المعلّقين الإسرائيليين الذين اعتبروا أن حزب الله نجح في «ترويض» إسرائيل مع سقف عمليات أصبحت روتينية، بعدما كان أقل من ذلك بكثير يمكن أن يُشعل مواجهة عسكرية كبرى. وبقدر اتساع الهامش العملياتي الذي فرضه حزب الله، يتعبّد الطريق لتعاظم تأثيره في اعتبارات جهات القرار الإسرائيلي والأميركي.
حزب الله في “مجلس الحرب”
امتداداً لما تقدّم، تحوَّل إنجاز حزب الله في فرض وتوسيع هامش عملياتي متحرك، تحت سقف معادلة الردع القائمة، إلى معطى إستراتيجي فرض حضوره لدى جهات القرار في تل أبيب وواشنطن، في التخطيط للحرب على غزة. وتحوّلت جبهة لبنان وصولاً إلى اليمن، إلى أحد الكوابيس التي تحضر مع كل خيار تتم دراسته في “مجلس الحرب” الإسرائيلي الذي أصبح الأميركي شريكاً رئيسياً، بل مديراً له من الناحية العملية.
استمرار المعركة مفتوحة على متغيّرات إقليمية وميدانية يترتّب على كل منها سيناريوهات محتملة متعددة، لا يعني أنه لا يمكن الحديث عن إنجازات منذ الآن، خصوصاً أن هذه العناوين تشكل مؤشراً إلى اتجاه تعاظم هذه الإنجازات، وتشمل المزيد من العناوين الميدانية والإقليمية. يبقى أن الإنجاز الذي ينتظره المقاومون في فلسطين والمنطقة، هو أن يتحامق الإسرائيلي بشن عملية برية يتحوّل معها قطاع غزة إلى مستنقع يستنزف جيش العدو، وإمكانية أن يقترن ذلك بتطور استنزافه أيضاً على الحدود مع لبنان الذي بدأ بسقف استهداف المواقع والآليات واصطياد الجنود على الحدود، وإشغال جزء مهم من القوات العسكرية، ونزوح عشرات الآلاف من المستوطنين في اتجاه إيلات وغيرها، وتعطيل الحياة الاقتصادية… وهذا كله في ضوء السقف العملياتي القائم حتى الآن.