| جورج علم |
العودة إلى لبنان المهرجان صعبة. ورحلة الانحلال تطول. لا حوار بين المكونات. لا مؤسسات دستوريّة تعمل. لا إصلاحات طبقاً لمواصفات صندوق النقد الدولي. والمطارح التي كانت عابقة برائحة الصيف، بدأ يدركها اصفرار أيلول، ومع ذلك هناك من يؤكد أن البلد غير متروك، هناك أنامل تحرّك الحجارة على رقعة الشطرنج. وأن اللبنانييّن قادرون على إنتاج أزمات، لكنّهم غير قادرين على إنتاج حلول.
في الحالة الأولى، لبنان مدوّل. هناك أكثر من 20 دولة مشاركة في عديد قوات حفظ السلام في الجنوب (اليونيفيل). يصحّ هنا السؤال عن الخلفيات، والأبعاد، والمصالح، والمطامح؟ هناك “دزينة” من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن حول لبنان، بدءاً بالقرارين 425 و426 تاريخ 19 آذار 1978، وصولاً إلى القرار 1701. ألا يصحّ الاستفسار هنا عن معنى ومغزى هذا الكرم الحاتمي الصادر عن مجلس الأمن الدولي؟ هناك العديد من المؤتمرات الدوليّة والإقليميّة التي عقدت للإمساك بذراع لبنان ومنعه من السقوط والارتطام. هناك الأميركي الذي يبني في عوكر، أكبر مجمّع دبلوماسي له في الشرق الأوسط، وبكلفة تتجاوز المليار دولار، هل يفعل ذلك ليستثمر بالاستقرار، أم بالدمار، وخطوط النار؟ هناك الإيراني الذي يحيك بصمت وهدوء وأناة سجادته العجميّة على طول “الخط الأزرق”، غير عابئ بالكلام المدرار حول الاستئثار، والاستكبار. هناك الفرنسي الذي نقل ورشة مصالحه إلى العبّ الشيعي، بعد العب السنّي، والماروني، وبالتالي لا مكان اليوم للغة العواطف في أبجديّة المصالح، ولا حنين إلى “أرزة لامرتين” في “غابة أرز الرب”، ولا لـ”مرقد العنزة”، وجبال الصوان، وعندما تطغى رائحة النفط على المبادئ العليا للثورة الفرنسيّة، يصيب الزكام الأنوف المروّسة، وتتفتّح مسام الشهيّة النهمة للبترو دولار.
ولا مجال للحديث عن الاهتمام المفرط بضرورة تحقيق الإصلاحات الماليّة، والسياسيّة، والاقتصادية، من جانب الدول المانحة، وصولاً إلى صندوق النقد الدولي. إن هذه الغيرة غير بريئة، وهناك أهداف، ومخططات تبرّرها أسئلة مشروعة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
– لماذا يصرّ الإتحاد الأوروبي على دمج النازحين السورييّن، وهو الأعلم بواقع لبنان، ومقوماته الاقتصادية، وتركيبة مجتمعه القائمة على توازنات دقيقة وحسّاسة؟
– ما هو مصير ومستقبل المخيمات الفلسطينيّة في لبنان؟ وإلى متى ستبقى مدجّجة بالسلاح، وتشكّل بؤر توتر، وساحة لتبادل رسائل إقليميّة ودوليّة؟
– إلى متى ستستمر هذه الازدواجية بين الدولة والدويلة، وهذا التعايش القسري بين السلاح الشرعي، والسلاح الميليشيوي؟ وتعميق الانقسام بين “لنا لبناننا، ولكم لبنانكم”؟!
إن لبنان المدوّل، والممسوك بمفاصله كافة، الأمنيّة منها، والسياسيّة، والماليّة، والاقتصادية، من قبل دول نافذة، ومؤثّرة، يفتح الباب على جدليتين: أي لبنان سيخرج، بعد طول هذا الانصهار، من الفرن الدولي ـ الإقليمي؟ ووفق أي خريطة، ودور، ورسالة؟ ثم ماذا عن الميثاق، والعيش المشترك، وطائر الفنيق، وأبجديّة جبيل، وأرجوان صور، ولبنان الـ6 آلاف سنة من عنفوان سعيد عقل؟!…
لا مصلحة وطنيّة لنبش التاريخ في هذا الفالق الزمني المصيري، لكن تجارب كثيرة قد فاض حبرها، ولطخت صفحات لبنان الإستقلال بمداد أسود، ورسّخت قناعات مؤلمة في الوجدان الوطني، واحدة منها أن اللبنانييّن غير جديرين بإدارة شؤونهم، وبناء حصون سيادتهم، واستقلالهم، عن طريق قيام دولة قويّة، قادرة، وعادلة، منفتحة على الريادة، والإبداع، والتفوّق. مؤسف القول إن واصا باشا تحكّم في ما مضى برقاب الكثيرين من بني بجدتنا. مؤسف القول إن اللبناني، وفي مراحل عدّة، فضّل العصا على الجزرة، إختار أن يُساق بدلاً من أن يسوق. فُرض الطائف في 30 أيلول من العام 1989، بمبادرة سعوديّة ـ عربيّة ـ إقليميّة ـ دوليّة، لإنهاء الإقتتال. جاء بقادة الميليشيات المتناحرة من الشارع، إلى كنف المؤسسات، وكلّفها ببناء الدولة، وكانت النتيجة بناء دويلاتهم على قاعدة المحاصصات. خرج العسكري السوري من لبنان في نهاية نيسان من العام 2005 تاركاً الفرصة متاحة أمام اللبنانيّين لإدارة شؤونهم بمسؤوليّة، وجدارة، وكانت النتيجة ما هو متوافر حاليّاً على البيدر الوطني من حثالات. الأدهى أن الحوار المسؤول ممنوع، ولغة التخاطب الدارجة تسرق من معين الانحطاطي أقسى عبارات البذاءة، في خطاب تنكيل البعض بالبعض الآخر، والتجريح بالكرامات، والحرمات.
كان لافتًا البيان الصادر عن المكتب الإعلامي للنائب طوني فرنجيّة، يكذّب فيه خبراً، عن زيارة محتملة له لمعراب. كان بإمكانه أن “يطنّش”، ويتغاضى، لكن بيانه فتح كوّة على يومياتنا السياسيّة. إن الحليف الطبيعي لوالده سليمان فرنجيّة في معركته الرئاسيّة، هو الرئيس نبيه برّي، و”حزب الله”، والإثنان من دعاة الحوار مع سائر الكتل النيابيّة لإنجاز الإستحقاق الرئاسي، ويأتي بيان التكذيب ليشير بان الحوار المطلوب، هو “عالقطعة”، ويفترض أن يشمل جهات، ويستبعد أخرى، فالإنتقائيّة سارية المفعول، والفوقيّة لا تزال تتحكّم بالقناعات والخيارات. ثم أن رفض الحوار، والتلطّي وراء خلفيات معروفة، يعطي إنطباعاً بأن المرشّح الرئاسي ليس مخيّراً، بل خاضعاً لحسابات “الحزب”، و”أجنداته”، وهذه إشارة حمراء، غنيّة بالدلالات التي بلغها المسار الذي يسلكه “الحزب” لإنتاج رئيس صنع في عين التينة، وحارة حريك، وليس في رحاب الإجماع الوطني المعطّل قسراً، والمقفل الأبواب بشكل محكم.
وفي ظلّ غياب الإرادة الوطنيّة للإنقاذ، يبقى الإنهيار من اليوميات المألوفة، ويبقى السؤال مشروعاً مع طالع كل شمس، أيّ “واصا باشا” جديد سيتم انتدابه، وأيّ عصا غليظة سوف تتحكّم بمقدرات البلاد والعباد؟!…