/ جورج علم /
فُتح ملف رئاسة الجمهوريّة على مصراعيه، وراء الكواليس، إنطلاقا من فرضيتين:
الأولى، رئيس لتلافي الفراغ، والتصدي لأي محاولة من شأنها أن تدفع بهذا الإستحقاق نحو متاهات مجهولة، على وقع المستجدات المتسارعة في الشرق لأوسط، والعالم، وهي مستجدات سلبيّة، غامضة، وحبلى بتوقعات غير مطمئنة.
الثانيّة، أيّ رئيس، لأي جمهوريّة؟ وهل العقدة حكراً على شخص الرئيس، بحيث إذا ما تغيّر تنتهي، ويبدأ الحل؟ أم ان العلّة بالنظام الذي وضع فكرة “لبنان الوطن” موضع نقاش جدّي وسط التحديات المحليّة، والمستوردة، والتي أنتجت “جوائح” تفتك بـ”الميثاق”، و”الديموغرافيا”، و”الكيان”.
يبدأ البحث الجدّي من قراءة واقع الحال، كون الإنتخابات لم تغيّر شيئاً، لا بل زادت المشهد ضبابيّة، وإحباطاً، وكانت في أفضل الأحول مجرّد “التقاط الأنفاس” بين أزمة كانت متفاقمة، وتستمر الآن مفتوحة على المجهول.
والتقييم هذا مقتبس من مجالس السفراء الذين شجّعوا على إجرائها، ورافقوا خطّ سيرها، وقيّموا نتائجها بدقّة، وموضوعيّة، وكانت الخلاصة عندهم أن الشعب اللبناني انتخب الأزمة، ولم ينتخب الحل. وصوّت لاستمرار معاناته، ولم يصوّت بحثاً عن حلول لها!
لا بل ذهب بعض السفراء الى الشكوى من التضليل الذي مورس: “كانت كل تقاريرنا، بعد إنتفاضة 17 تشرين، تتحدث عن مخزون كبير من التغيير، وإذ بالإنتخابات تكشف المستور، وتؤكد بأن الشعب اللبناني بغالبيته مسؤول، فإما أنه لا يريد التغيير، أو أنه غير مولع بركوب موجته، أو أنه لا يملك النضوج السياسي، وهو لا يزال أسير المرجعيّة، سواء أكانت سياسيّة، أو طائفيّة، أو مذهبيّة، أو فئويّة ـ مناطقيّة”.
حتى الأولويات المدرجة على سابورة المرحلة، لم تعد جاذبة، رغم أهميتها القصوى.
من يستطيع ان يقلّل من أهمية الرغيف، وحبّة الدواء، وصفيحة البنزين، وقارورة الغاز، وجنون اسعار السلع الإستهلاكيّة؟… ومع ذلك تبقى اليقظة الإستشرافيّة مصوّبة ناحية الأزمة الأدهى التي تحاصر المصير، والمستقبل. وهي ليست طارئة، ولا بعابرة، بل متجذّرة، وتتغذّى بعض شرايينها من تدخلات خارجيّة نافرة.
بعد الإنتخابات النيابيّة، ومع الإستعداد لفتح ملف الإنتخابات الرئاسيّة، يكبر الضجيج ويكثر حول المسار الإنحداري الذي لا يزال يشقّ طريقه بقوّة نحو الإرتطام الكبير.
- ضجيج حول الميثاق. هناك من لا يريده، ويشكك بثوابته، والمرتكزات التي نشأ عليها، ويعمل في السر والعلن على تقويضه، والإلتفاف عليه، وتجاوزه على قاعدة “ما كان، لم يعد صالحاً الآن”.
- ضجيج حول الصيغة. لقد صنعت بخصوصياتها، وخصائصها، الفرادة التي أغنت لبنان بمحيطه العربي. اليوم هناك مقاربة مختلفة، وخطاب آخر حول القيم، والأسس، والمفاهيم “المتحررة من الأيديولوجيات المتحجرة”، كما يفصح أصحاب هذا الخطاب.
وإذا كانت الصيغة من إرث الماضي، كما يصفها البعض، فأي بديل عنها سيكون مستحيلاً في ظل منطق الإستقواء، والإستعلاء.
- ضجيج حول النظام. البعض يقول بأنه ولّاد أزمات، كونه مثقلاً بالوجاهات، والمحسوبيات، والفئويات، وهذه بدورها ولّادة الفوضى، والفساد، والقفز فوق القوانين، فيما البعض الآخر يرى فيه الضمانة، والحصانة إذا ما انتصر التعقّل على التهور.
- وضجيج حول فلسفة الكيان، هل هو وطن أم ساحة؟ هل هو هويّة وهوى، أم مجرّد مساحة للإختلاط، والتلاقي حول مصالح، ورغبات تمليها إرادات خارجيّة؟
إن الأزمة لم تعد حكراً على ما تحمله اليوميات من تحديات إقتصاديّة – معيشيّة. هذه واحدة تطلّ برأسها من وكر الثعابين، لكن في الداخل العميق، هناك قطعان من الرؤوس التي تسعى جاهدة إلى أخذ البلد نحو فلك آخر، نحو لبنان آخر لا نعرفه، ولم تتوافر الرغبة بعد للتعرف عليه. والخطير أن في هذا الضجيج المتمادي من يريد أن يغيّرالمرتكزات، تحت شعار التفرّغ لمعالجة الأولويات. ومن المفيد، والمستحسن أن تشكّل حكومة، وتعير إهتماماً لصندوق النقد الدولي، والتعافي الإقتصادي، والإصلاحات، وتأمين حاجات المواطنين الى الخبز، والدواء، والكهرباء، وسائر المتطلبات.
ولكن كلّ هذا، على أهميته، وضروراته القصوى، لا يحل الأزمة. إنها في منعطف آخر، في مكان يدور فيه الحديث حول: “إن الإستحقاق الرئاسي، دستوري بإمتياز، ومهمّ، وحيوي، ولكن رئيس لأي جمهوريّة. هل لتلك التي يكتوي المواطن بنيران أزماتها، وهفواتها، ونواقصها، وعيوبها، وبدعها، أم لجمهوريّة تؤمن الحدّ الأدنى من الكرامة الإنسانيّة، والوطنيّة، لا تتقدم فيها الولاءات الخارجيّة على الولاء للوطن، ولا تحوّل الوطن الى ساحة يستقوي بها الخارج لتصفية حساباته على حساب كرامة اللبنانييّن، وسيادتهم، وحقهم في عيش كريم”.
فُتح ملف رئاسة الجمهورية على مصراعيه، وراء الكواليس القلقة ليس على مصير الرئاسة، بل على مصير وطن تتهاوى فيه المداميك ـ الأساسات التي قام عليها.
فائض القوة يريده وفق مصالح الجهات التي يستمد منها قوته.
فائض الفساد يريده وفق مطامح جشعه وطمعه.
فائض الفئوية يريده وفق مقتضيات إقطاعيته، ومنطقه، ومنطقته.
هذا ما يُثار اليوم. أما غداً، فيتوقف على ما يُزرع اليوم، أو نزرعه.
اليوم هناك واقع أصبح متكامل المواصفات تقريباً، بتركيبته… هل هذا هو النموذج الذي سيحتذى بلبنان الغد؟ وهل لبنان الغد يفترض أن يستمر ساحة لتصفية الحسابات الإقليميّة والدوليّة، وحل الأزمات العالقة في المنطقة على حساب شعبه، سيادته، وأمنه، وإستقراره، أم يفترض أن يكون وطن كامل المواصفات، عزيز الجانب؟
وآخر الكلام: إن البعض يريد أن يضمن رئاسة الجمهوريّة منذ الآن، فيما البعض الآخر يريد أن يضمن الجمهورية أولاً، والباقي يأتي…