| جورج علم |
خسر لبنان صديقاً صادقاً هو ميخائيل بوغدانوف. لم تتوافر معلومات حول الأسباب الكامنة وراء إقصائه عن دائرة الشرق الأوسط في وزارة الخارجيّة الروسيّة، وهو الملمّ في شؤون المنطقة وشجونها، والممسك بملفاتها المعقّدة. أحب لبنان. فهم تعدديته الثقافيّة، وبنى شبكة واسعة من الصداقات، وكان مرجعيّة في هندسة العلاقات الروسيّة ـ اللبنانيّة.
يأتي التغيير وفق متطلبات المرحلة الجديدة في الشرق الأوسط، بعد العدوان الإسرائيلي ـ الأميركي على إيران، والتداعيات المتناسلة تباعاً.
يتفق الخبراء الروس على وصف المرحلة بـ”الجديدة”، والتي تتطلّب “مقاربة جديدة” مختلفة:
أولاً ـ هناك شرق أوسط جديد تصنعه الآلة الحربيّة الأميركيّة ـ الإسرائيليّة بقوّة الحديد والنار.
بدأ التحوّل على مرحلتين، ودائماً تحت شعار مكافحة الإرهاب.
الأولى، بعد أحداث 11 ايلول 2001 في نيويورك، حيث إتخذت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، من سقوط البرجين، ذريعة لإجتياح أفغانستان، ومن ثم العراق، تحت شعار مكافحة الإرهاب.
الثانية، بعد “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول 2023، وردود الفعل الإسرائيليّة ـ الأميركيّة من غزّة، إلى “محور الممانعة”، إلى إيران، والآن في سوريا، ولبنان.
قدّم الإرهاب، والفصائل المنتسبة إلى منظومته، خدمة مجانيّة لآلة الحرب الإسرائيليّة ـ الأميركيّة، كي تمعن هتكاً للسيادات، وتغيّيراً للخرائط في الشرق الأوسط. والتغيّير لا يزال مستمراً، والحروب لا تزال مستعرّة، فيما يقف والعالم مشدوهاً أمام ما يجري، وعاجزاً عن وقف المذبحة.
ثانياً ـ عودة مصطلحات قديمة ـ حديثة إلى التداول، سواء في كواليس مغلقة، أو عبر وسائل الإعلام، منها على سبيل المثال لا الحصر، “إنتهاء زمن سايكس ـ بيكو، والبدء بزمن سايكس ـ بيكو أميركي ـ إسرائيلي جديد، لم تكتمل مواصفاته بعد”!
وترى موسكو نفسها معنيّة بهذا الـ”سايكس ـ بيكو” الجديد. ما هي خرائطه؟ ما هي الكيانات الجديدة التي ستقوم على ركام كيانات مدمّرة ومسحوقة؟ ما هي الأبعاد والخلفيات الأمنيّة، والسياسيّة، والإقتصاديّة؟وأيّ هيمنة ستخضع لها دول المنطقة، وشعوبها؟
واضح ـ من المنظار الروسي ـ أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومن خلال مزاجيته المتقلّبة، ومواقفه الصادمة، يريد أن يوفّر بيئة عالميّة خصبة لمشاريعه الطموحة، وهيمنته الآحاديّة المطلقة. يكفي تمسكه بشعار “أميركا اولاً”، كي يكون العالم بأسره في المرتبة الثانية، أو الثالثة… وهذا الجسر لا يمكن إستكمال قناطره، رغم هندسات المهندسين، وبراعة البنّائين، لأنه سيؤدي حكماً إلى حرب عالمية ثالثة، مهما تبرّجت المواقف المتطرفة، وإستهلكت الطموحات الجشعة من مساحيق التجميل!
ثالثاً ـ تقف روسيا ـ بوتين على مطلّ مشرف على الشرق الأوسط، بعد الحرب الأميركيّة ـ الإسرائيليّة على إيران، لإستكشاف الأجواء، ورصد المتغيّرات، والتعاطي مع التحولات الكبرى في المنطقة بروح من المسؤوليّة العالية التي تحتمها المصالح، والمكانة، وموازين القوى على مستوى الإقليم.
هناك إلتباسات كثيرة لا بدّ من توضيحها:
• ليس الهدف من الهجمة الاميركيّة ـ الإسرائيليّة، إستهداف النووي الإيراني. النووي ذريعة، كما كان سلاح الدمار الشامل ذريعة إتخذها جورج دبليو بوش لغزو العراق في آذار 2003.
إستهداف إيران لم يتحقق. لا الأميركي إستطاع أن ينتزع من النظام الإيراني توقيعا على دفتر شروطه، ولا الإسرائيلي إستطاع أن يطيح به، ليعرّض الكيان الإيراني إلى التجزئة والتفتيت. لذلك تبقى الأبواب مفتوحة على كل الإحتمالات.
• ليس المستهدف من الهجمة الأميركيّة ـ الإسرائيلية، إيران وحدها، بل الثلاثي الإيراني ـ الروسي ـ الصيني.
لا مصلحة للرئيس ترامب أن تكون هناك شراكة في الشرق الأوسط مع الروسي، والصيني.
لا مصلحة “لأميركا أولاً” في الشرق الأوسط، أن يكون الروسي على إمتداد في المياه الدافئة على شاطىء المتوسط. وأن يغذّي الصيني إمدادات مصنعه من النفط الإيراني ـ الخليجي.
ولا مصلحة “لإسرائيل التوراتيّة الكبرى” التي يطمح إليها اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو، أن يكون الروسي صاحب كلمة، ودور، وباع، ونفوذ في الشرق الأوسط.. وأيضاً الصيني.
• ليس الهدف من الهجمة الأميركيّة ـ الإسرائيليّة، الهيمنة على إيران، بل على هذا الجسر الحيوي من العالم الذي يشكل صلة وصل ما بين قارات ثلاث: أوروبا، آسيا، وإفريقيا.
البعد الإستراتيجي لا يقاس بأحداث عابرة، ولا بصولات وجولات محسوبة الأهداف، والأبعاد. هذه تعتبر مجرّد مداميك لا بدّ منها لبناء البرج العالي. ولا يوجد الأميركي وحده في البرج، متكئاً على السند الإسرائيلي. في البرج يوجد الروسي أيضاً، حاضراً بقوة، رغم وداعة المظاهر، والمؤثّرات. وفي البرج أيضاً الصيني بهدوئه، وبرودة طبعه، وصمت دبلوماسيته المتمددة في شرايين المنطقة، حتى عروقها الدقيقة؟
كيف سيتصرّف الروسي، والصيني؟
الجواب الحاسم: “إن اليوم التالي في الشرق الأوسط الجديد، وبعد الحرب على إيران، لن يكون وفق مواصفات الأميركي أو الإسرائيلي، ولو كان بإستطاعتهما لفعلا، ولم تتوقف الحرب، وإستمرّا في القصف والتدمير حتى يحققا بنك الأهداف”.
مسارعة ترامب إلى وقف الحرب بعد 12 يوماً على بدئها، لم يأت من “مكارم الأخلاق”، ولا من “مشاعره الإنسانية” التي تنضح بـ”الشهامة”، بل من الريح التي إستشعرها، والتي بدأت تهبّ في المنطقة عكس ما تشتهي سفنه، والأشرعة الإسرائيليّة.
ما يريده ترامب ـ وحتى نتنياهو ـ في المنطقة يجب أن يمرّ حتماً بالمخفر الروسي – الصيني، ولو من موقع الحرص على الشكليات، لأن لعبة المصالح لم تعد تقتصر تسابقاً على من هو الأولى بتجارة “الكشّة”، بل على إستباحة كيانات، وتغيير خرائط!
ماذا عن لبنان؟
* هناك نصيحة أسداها ميخائيل بوغدانوف لعدد من أصدقائه اللبنانيّين قبل أن يغادر موقعه: “لا تضعوا كامل بيضكم في سلّة الأميركيّ. عند التقلّب في أنيابه العطب”!
ألم ينبئنا توم برّاك أن بلاده لا تستطيع أن تمون على “إسرائيل” لوقف إعتداءاتها؟! إذا كانت لا تمون، فمن يستطيع أن يفعل؟! وكيف يمكن إخراج لبنان من عنق “حصريّة السلاح”؟!
للانضمام إلى مجموعة “الجريدة” إضغط على الرابط














