الجوع في غزة لا يفتك بالسكان جسديًا فقط، بل وعقليًا أيضًا، ومبلغ 2000 دولار لم يعد كافيًا لشراء خبز يكفي لأسبوعين. فمن لديه القدرة على شراء الطعام، وإن بأسعار باهظة، لا يتناول سوى وجبة صغيرة واحدة يوميًا، أما البقية فيمضون يومهم دون طعام.
هذه خلاصة تقرير نشرته صحيفة “أوبزيرفر” البريطانية.
وتناولت الصحيفة قصة شخص إسمه “حسن” يعمل في “الإنروا”، وقد طلبت “الإنروا” عدم الكشف عن إسم حسن الحقيقي لحمايته.
وقالت الصحيفة إنه “بالنسبة لحسن، فإن النجاة من المجاعة تتعلق بالحسابات اليومية، بدءًا من كيفية تقسيم قطعة خبز، حيث يتحوّل كل ربع منها إلى وجبة. فهو يمشي يوميًا ثلاثة أميال بحثًا عن خضروات، ويجمع ما يجده من حطب لطهو ما توفر من طعام”.
وتابعت: بعد عثوره على 3 علب فاصولياء، قضى حسن وقتًا طويلًا يفكر في كيفية توزيعها على أفراد أسرته الخمسة، بل لجأ إلى “تشات جي بي تي” للحصول على نصائح بشأن إستراتيجيات توزيع السعرات الحرارية.
وفي الأسبوع الماضي، قضى أربعة أيام بحثًا دون جدوى عن طحين أو معكرونة، وبدلاً من ذلك، شاهد أشخاصًا يُغمى عليهم في الشوارع بسبب الجوع.
فَقَدَ حسن 38 كيلوغرامًا منذ مارس/آذار، عندما بدأت “إسرائيل” حصارها المشدد على غزة وأصبح الطعام نادرًا. وقال: “يجب أن نحسب كل شيء من أجل البقاء”، وأضاف: “هذا النوع من التجويع لا يؤثر علينا جسديًا فقط، بل عقليًا أيضًا… إنه كفاح”.
ورغم معاناته، يُعدّ حسن من القلة المحظوظة، إذ إن عمله في وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) يوفر له دخلًا ثابتًا، إلا أنه لا يكفي لإعالة أسرته. وقد أجلى زوجته وأطفاله مع بداية الحرب، وبقي في غزة لرعاية والديه المسنين.
ويجمع دخله مع دخل شقيقيه لتوفير وجبة أو وجبتين يوميًا لوالديهم.
وبات الحصول على وجبة يومية رفاهية نادرة في غزة، حيث يقول الكثير من السكان إنهم يقضون أيامًا كاملة دون أن يدخل شيء إلى معدتهم. وقد توفي 100 شخص على الأقل، معظمهم من الأطفال، نتيجة سوء التغذية.
ويقول مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة “أوتشا” إن معظم سكان غزة، البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة، يعيشون على وجبة واحدة فقط يوميًا. أما برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، فقد قدّر أن نحو نصف مليون شخص في غزة يعانون من جوع حاد.
وقال حسن: “بالنسبة لي، كشخص يتقاضى راتبًا جيدًا مقارنةً بغيري في غزة، أحصل على 2000 دولار شهريًا، لكن هذا لا يغطي تكلفة الخبز لأسبوعين فقط”.
وبسبب نظام تحويل الأموال، يخسر نصف راتبه الذي يحصل عليه نقدًا، فضلًا عن ارتفاع الأسعار الجنوني، إذ يصل سعر كيلوغرام الطماطم إلى نحو 30 دولارًا، والخيار إلى 26 دولارًا، وكيس البصل إلى 47 دولارًا. ولذا فهو يشتري نوعًا واحدًا فقط في كل مرة.
وفي بعض المحلات القليلة التي تبيع السكر والقهوة، تُباع هذه المواد بالغرامات، ويُستخدم ميزان دقيق يُستعمل عادة لوزن المجوهرات. وتكلف كل علبة فاصولياء ـ التي وزعها حسن بحذر على أفراد أسرته ـ نحو 11 دولارًا، بينما كان سعرها قبل الحرب لا يتعدى شيكلًا واحدًا (نحو 30 سنتًا).
ويتذكر حسن عندما كانت أقل كمية من السكر تُباع هي 3 كيلوغرامات، أما اليوم فتُباع بالغرام. وقال: “طلبت مني والدتي في الأسبوع الماضي أن أبيع قطعة من أساورها التي احتفظت بها منذ مهرها، لأنها أرادت أن تشعر بأنها تساهم وليست عبئًا”، وقد وافق أولادها، بتردد، على بيعها.
وأضاف حسن أنه يقضي أحيانًا ساعة كاملة في كتابة رسالة بريد إلكتروني واحدة بسبب ضعف التركيز الناتج عن الجوع.
وقال مسؤولون من ثلاث مؤسسات تابعة للأمم المتحدة إنهم قلقون بشأن حالة الموظفين الذين ينهارون من الإعياء. وفي الأسبوع الماضي، قال صحفيون من ثلاث وكالات كبرى، من بينها “BBC”، إن زملاءهم في غزة يعانون من الظروف نفسها، وغير قادرين على العمل بسبب نقص الطعام.
وقالت جولييت توما، مديرة الاتصالات في “الإنروا”: “لدينا نحو 12,000 موظف، وهو أكبر عدد من موظفي الأمم المتحدة في غزة، ويقولون لنا إنهم غير قادرين على العمل بسبب الإجهاد… إنهم يسيرون أميالًا يوميًا بحثًا عن شيء يأكلونه، ويُغمى على بعضهم أثناء العمل، ولهذا فحتى الحراس في غزة بحاجة إلى من يرعاهم”.
ومنذ أن شددت “إسرائيل” حصارها على غزة، في أوائل مارس/آذار، لم تدخل سوى كمية محدودة من المساعدات الإنسانية عبر الأمم المتحدة. وبدلاً من ذلك، دعمت كل من واشنطن وتل أبيب خطة عسكرية مثيرة للجدل تُعرف باسم “مؤسسة غزة الإنسانية”، لتوزيع صناديق الطعام، وتزعم أنها وزعت ملايين الوجبات، رغم تفاقم المجاعة بشكل واضح.
وقد ثبت أن هذه الخطة كانت قاتلة أيضًا ـ إذ يقدّر مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن أكثر من 1,000 شخص قُتلوا أثناء محاولتهم الوصول إلى المساعدات منذ بدء عمليات المؤسسة.
وتُقدّر “الإنروا” أن لديها نحو 6,000 شاحنة محملة بالمساعدات متوقفة في الأردن ومصر، تنتظر السماح لها بالدخول. وأشارت السلطات الإسرائيلية إلى تكدس المساعدات عند معبر كرم أبو سالم جنوب غزة، متهمةً الأمم المتحدة بعدم قدرتها على جمعها.
وأعرب ماكس رودينبيك، من مجموعة الأزمات الدولية، عن أسفه لانهيار محادثات وقف إطلاق النار، واصفًا المجاعة في غزة بأنها “كارثة من صنع الإنسان”، داعيًا “إسرائيل” إلى فتح المعابر أمام المساعدات الدولية.
وفي السياق ذاته، قالت أولغا شيريفكو، المتحدثة باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في غزة، إن عملية جمع المساعدات تتطلب تنسيقًا دقيقًا مع السلطات الإسرائيلية، لأن نحو 90% من أراضي غزة أصبحت اليوم إما مناطق عسكرية أو خاضعة لأوامر إخلاء.
وأضافت: “إذا تمت الموافقة على مهمة لجمع المساعدات، فعليك الانتظار أحيانًا حتى 46 ساعة للتنقل، لأننا بحاجة إلى تنسيق مع القوات على الأرض لوقف القتال والسماح لنا بالتحرك… هذا قد يستغرق ساعات، أو لا يؤدي إلى شيء أبدًا، عندما ننتظر الضوء الأخضر الذي لا يأتي”.














