/ جورج علم /
إنطفأت أنوار الشاشة العملاقة في مأوى وزارة الخارجيّة، المشرّدة من قصر بسترس منذ إنفجار المرفأ في الرابع من آب 2020.
هجر الحشد الإعلامي القاعة، بعد أن قام بواجبه في تغطيّة العمليّة الإنتخابيّة عبر الألكترونيات الحديثة.
إنفرط عقد السفراء، ورؤساء البعثات الأمميّة والدولية الذين تقاطروا نحو الشاشة إحتفاء بـ”الإنجاز التاريخي الديمقراطي”، وإقراراً بـ”شفافيّة الإنتخابات”، والتحقق من “نسبة االمشاركة”!
بدورها مارست الهويّة المهاجرة، المغامرة، حقّها في الإقتراع. قالت كلمتها حول أي لبنان تريد. وكانت نسبة الإقبال مقبولة، والإشكالات محصورة، واجتاز الاستحقاق عتبته بأقل نسبة من التشظّي، وبقي السؤال الكبير: لمن انتخب المغتربون؟
- في مدينة هامبورغ في ألمانيا سجّل إشكال بين مناصرين لأحد التنظيمات، وأحد الناخبين المستقلين، بعد أن عبّر عن رأيه المعارض لأحزاب السلطة.
- في باريس، دعا المخرج زياد دويري اللبنانيين للتصويت ضد جبران باسيل وحزب الله، معتبراً أن “هذه هي الطريقة الوحيدة لخلاص لبنان”.
- في برلين “هيصة” كبيرة من ناخبين مؤيدين للرئيس نبيه برّي، وحركة “أمل”، وأطلقوا هتافات: “يا نبيه إرتاح إرتاح.. برلين صارت الشياح”!
إنها عيّنة، أو نموذج، أو “بروفا”، أو صورة مصغّرة، عن المشهديّة التي ننتظرها، أو تنتظرنا، في 15 أيار، على خشبة الوطن المشظّى، والذي نثر أبناءه في رياح الأرض الأربع كالشهب، كما قال شاعر الغربة إيليا أبو ماضي:
ما عابهم أنهم في الأرض قد نثروا
فالشهب منثورة مذ كانت الشهب
رادوا المناهل في الدنيا ولو وجدوا
إلى المجرّة ركباً صاعداً ركبوا
ونعود من المجرّة الى الأرض، لنصطدم بالحاصل، والصوت التفضيلي، والعازل، والحبر على الإصبع للتأكيد على الممارسة الديمقراطيّة.
يجلس الدبلوماسي الأوروبي على الكنبة، في القاعة المقابلة للشاشة العملاقة، يكتف رجلاّ على أخرى، يراقب، يطرح بعض الإسئلة البسيطة، ويدون على “البلاك نوت” بعض الملاحظات. يقول:
- “كنت هنا (في لبنان)، شاركت في انتخابات 6 مايو / أيار 2018، بصفة مراقب أوروبي. كانت هذه (الشاشة) في قصر بسترس، إنه قصر تاريخي جميل، يؤوي تحت قرميده الأحمر عبقاً من تاريخ بلدكم. نحن الآن هنا في هذا الجناح من البناء السكني. نحن هنا في الوسط المالي ـ الإقتصادي، كنت في الـ2018 في القصر المجاور لشارع سرسق، حيث المتحف، والتراث، والأصالة، والبورجوازيّة المثقفة المنفتحة على الغرب بلكنة فرنسيّة مميزة”.
- يضيف: “تغيّر الكثير ما بين انتخابات 2018، وانتخابات 2022. إنفجار الرابع من آب 2020 دمّر الواجهة المشرقة للعاصمة. كانت بيروت أم الشرائع، ولكن في بيروت اليوم قضاء لا يقول كلمته حول انفجار المرفأ، ونقرأ في الصحف الكثير من التشكيك بصدقيته. لبنان الاقتصاد الحر، والقطاع المصرفي المزدهر، والذي استحوذ على درجة عالية من الثقة في عالم المال والأعمال، تحوّل اليوم الى علامة فارقة بالتعثر، والتقهقر، وفقدان الثقة. لبنان المنارة، مظلم، لا كهرباء، لا دواء، ولا حتى إستشفاء. كان مستشفى الشرق الأوسط، وجامعته، وحديقته، ومقهاه، ومطبعته، ومكتبته، وقبلة الأنظار في السياحة والإصطياف، والمؤتمرات، والندوات، والمهرجانات على مرّ الفصول. اليوم: يقترع اللبنانيون.. ولكن لا أدري، هل يقترعون لاستعادة الماضي الجميل، أم للحاضر القاتم، والمستقبل المجهول؟”.
يجيبه إعلاميّ ـ مراسل بعفوية: “بعد إقفال الصناديق، ستبدأ عملية الفرز، وعندها نستخلص الجواب”… عندها رسم على محيّاه إبتسامة صفراء، ووضع “البلوك نوت” في جيبه، وغادر المكان.. ربما على حسرة!
في كندا يحمل المواطن هويته “موديل 1954″، لكنه مُنع من ممارسة حقّه، لأنه يحمل بطاقة مرّ عليها الزمن! القضيّة المطروحة اليوم، هي قضيّة تغيير الهوية، حول أي لبنان؟ أي نظام؟ أي كيان؟ أي دور؟ أية وظيفة له في هذا الشرق الأوسط المتغيّر؟!
المشهد الإغترابي لا يحمل تباشير التغيير. حمل بعض الاغتراب معه الى المهجر “زوّادة” مكتنزة بأصناف الفئويّة، والطائفيّة، والمذهبيّة، والمحشوة المشحونة بشتى أنواع الحساسيات، والعصبيات التي فجّرت أحقاداً، وخيبات لا تزال تنجب، وتتفاعل، وتتكاثر، رغم “التحت الذي بلغناه، ولما بعده من تحت”!
كان الرهان على التمدن، والتحضّر، والإنخراط مع المجتمعات الأخرى الأكثر ديمقراطيّة، ومسؤوليّة في الإختيار لتصحيح المسار، ولإعتناق روح من المسؤولية الفرديّة في التغيير نحو الأفضل، والتعبير عن الصح والخطأ… لكن الطبع غلب على التطبّع، ومن شبّ على شيء شاب عليه!
والشاشة العملاقة في ركن وزارة الخارجية، لم تحمل البشاشة. زارها رئيس الجمهوريّة ميشال عون كبادرة معنويّة، رمزيّة، تضامنيّة مع الحدث الإنتخابي، وقال كلمته الحاسمة: “إذا بدكم ياني إحكي… إسكتوا”. وسكت الإعلام، لكنه كان بخيلاً، ولم يأت بالروائع، وجل ما تمنّاه أن تمرّ الإنتخابات من دون مشاكل.. لكن ماذا عن الأيام التي ستلي، فخامة الرئيس، هل ستمر من دون مشاكل؟…
وتفقد الشاشة وزير الداخلية بسام المولوي، وتحدث عن عرس الديمقراطيّة، والروح المعنويّة العاليّة، والإقبال المشهود نحو صناديق الإقتراع، وما إلى ذلك من العبارات المدققة المنمّقة التي تفضي إلى هدف واحد وحيد يريد حفره في قناعة الناس : “اللهم إنّي صدقت. لقد قمت بما يتوجب علي كوزير للداخلية مسؤول عن تنفيذ الإستحقاق الإنتخابي، وعند إنتهاء االفرز، وإعلان النتائج.. لكل حادث حديث، حتى ولو بلغ السيل الزبى…