“وفي الصيف ضيّعت اللبن”.. إلاّ إذا…!

| جورج علم |

يقف “حزب الله” خلف الدولة. هذا خطابه. لكن كيف؟ وأين؟ وعلى أي مسافة؟ هذا هو السؤال.

سبّب خطابه هذا إحراجاً للدولة التي يقف وراءها، وراحت الولايات المتحدة، وبعض دول الإتحاد الأوروبي، يطالبها بضرورة الإسراع في حصر السلاح، طالما أن الحزب ـ وفق ما يعلن ـ يقف وراءها.

وفي النهاية، لا بدّ من قرار شجاع تحتّمه مصلحة لبنان العليا. العهد قويّ، ولم يفقد بريقه بعد. وحوله دول شقيقة، وأخرى صديقة داعمة. والمطلوب أن يقدم بحكمة ورويّة قبل فوات الأوان، لأن الفرص المتاحة قد لا تصمد طويلاً، ونهر المتغييرات جارف، ويأخذ في طريقه كل شيء.

قال بالخيار الدبلوماسي لتحرير الأرض، واسترجاع السيادة. وهو الخيار المتاح بعدما كشفت الخيارات الأخرى لبنان، وأدت إلى ما نحن عليه الآن.

يحاول إنقاذ وقف إطلاق النار، الذي أبصر النور فجر الأربعاء، 27 تشرين الثاني الماضي، والبناء عليه لوضع القرار 1701 موضع التنفيذ، لكن السعي لم يأتِ لغاية الساعة بالنتائج المرجوة، لأن “إسرائيل” تنظر إلى الإتفاق على أنه بوابة مفتوحة على المستقبل، وجسر عبور للعلاقات نحو مطارح أخرى.

ويعوّل المسار الدبلوماسي على الولايات المتحدة، كونها راعي الإتفاق، والشريك في صياغته، والمشرفة على حسن تطبيقه، وصاحبة الدور الفاعل والمؤثر على “إسرائيل”، وقد إستجابت الإرادة اللبنانيّة للرغبة الأميركيّة في تأجيل التنفيذ حتى 18 شباط الماضي، لكن الموعد عبر من دون إلتزام، لا بل إحتلّت “إسرائيل” نقاطاً إستراتيجيّة، وزادت من وتيرة إعتداءاتها، فيما غيّر الأميركي موقفه، ورأى أن الأولوية هي لحصر السلاح، كما تريد الدولة، وتعلن عنه، ومن ثم الدخول بمفاوضات مباشرة تؤدي إلى تفاهمات لا بدّ منها حول مواصفات اليوم التالي في الجنوب، وما إذا كانت ستكون وفق معايير إتفاقيّة الهدنة، والقرار 1701، أم وفق معايير أخرى يفرضها الشرق الأوسط الجديد؟

حجّة الأميركي أن الإدارة الديمقراطيّة السابقة برئاسة جو بايدن هي التي ساهمت في التوصل إلى إتفاق وقف إطلاق النار، وهي التي هندسته، والتزمت برعايته، وبالتالي فإن الإدارة الجمهوريّة الحاليّة، برئاسة دونالد ترامب، غير ملزمة ـ إلاّ “أخلاقيّاً” ـ بتنفيذه. ثم أنها تعتبر أن سلاح “حزب الله” أولويّة لا تتقدم عليها أي أولويّة أخرى، وتعتبره مدخلاً لابدّ من عبوره نحو الملفات الأخرى.

وحجّة الأميركي، أن الإجتماعات المطوّلة التي عقدها بنيامين نتنياهو في واشنطن مطلع شباط الماضي، قد إنتهت إلى تفاهم عميق على الشرق الأوسط الجديد، والمباشرة بوضعه موضع التنفيذ.

وتحدث الرئيس ترامب، بعد تلك الإجتماعات، عن ترحيل الغزّاوين، وتحويل القطاع إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، وأعلن هجومه على الحوثيّين، وهدّد “حماس” بجهنم، إن لم تفرج عن جميع الرهائن، دون قيد أو شرط، ووضع إيران أمام خيارين، إما مفاوضات حول برنامجها النووي، ونفطها، ودورها في الإقليم، أو الحرب؟!

أما لبنان فقد نال نصيبه. عاد نتنياهو من واشنطن أكثر دعماً، رفض الإمتثال لوقف إطلاق النار، وتجاوز موعد 18 شباط بتوسيع دائرة إحتلاله، وإعتداءاته، وعاد إلى مربع الإغتيالات، وهدفه الضغط على الحكومة للدخول إلى مفاوضات مباشرة.

تحاول بيروت التمسك بمطالبها، والقبول بمفاوضات غير مباشرة، لكنها لم تحصد الكثير من الدعم الفعلي، حتى الدول التي تفهّمت الموقف اللبناني، لا تملك حيلة، ولا وسيلة للضغط على “إسرائيل”، والولايات المتحدة، بل وعدت ببذل “الممكن” و”المتاح”.

وقال الرئيس جوزاف عون ما عنده للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الشريك في الإشراف على تطبيق وقف إطلاق النار. وقال رئيس الحكومة نواف سلام ما عنده لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان صبيحة عيد الفطر المبارك. ويبقى الدور السعودي، أكثر فعاليّة من الدور الفرنسي – في هذه المرحلة بالذات ـ مع الولايات المتحدة، نظراً للعلاقات الإستثنائيّة ما بين واشنطن والرياض. لكن الفرنسيّين والسعوديّين يلتقون على أولوية حصر السلاح، وإلزام من قرّر الوقوف وراء الدولة بضرورة التقيّد بأحكامها لمصلحة الوطن، ونهوضه.

حتى باريس، التي تعاني من سياسة ترامب، وحربه الإقتصاديّة، متفهمة للتحولات الكبرى في الشرق الأوسط، وترى أن دولاً كثيرة أكبر من لبنان مساحة ونفوذاً، تحاول أن تتأقلم مع العاصفة الأميركيّة – الإسرائيليّة للحد من الخسائر، فكيف بلبنان الذي لا يزال البعض يستخدمه كساحة لتصفية حساباته مع المحور الأميركي – الإسرائيلي.

ويلتقي الشقيق السعودي، مع الصديق الفرنسي على الآتي:
أولاً ـ أن العهد لا يزال في عزّ زخمه، والحكومة في أوج عطائها، وعليهما تقع مسؤولية إقران القول بالفعل لجهة جمع السلاح، وإحتواء الدولة للدويلة.

ثانياً ـ على لبنان تقع مسؤولية التعاطي مع التحولات الكبرى في المنطقة بما يحفظ أمنه، وإستقراره، ووحدة أرضه، وشعبه. لا يستطيع أن يقف في وجه مخطط الشرق الأوسط الجديد، لكنه يستطيع أن يقلّل من تداعياته، وهذا يحتاج من العهد إتخاذ القرارات وفق حجم التحديات، لكن بحكمة.

ثالثاً ـ إن لم يكن حصر السلاح من أولويات العهد في هذه المرحلة الحرجة تحديداً، فإن تشكيل اللجان للتفاوض وفق المواصفات الأميركيّة، قد أصبح أولويّة، حتى لا تتأزم العلاقات مع واشنطن، ويصحّ فينا القول: “وفي الصيف ضيّعت اللبن”!