| روان فوعاني |
الآن.. نم قرير العين يا أبي..
لك أن ترتاح من هم الدنيا وغمها، ونبقى نحن نتخبّط بلا سند!
يعزّ عليّ أن أنعيك.. يعزّ عليّ أن أكتب عنك كلمات ملؤها الحنين والذكريات والأوجاع.. ملؤها الدموع والإشتياق واليُتم..
لم تكن يوماً بالنسبة لنا الأمين العام لـ”حزب الله” فقط، بل كنت أباً عطوفاً، حنوناً، ذو بال طويل كثيراً على أولاده كثيري الغلبة الذين يكررون الأخطاء.
تربينا منذ الصغر على حبك، وكبرتُ أنا في منزل تستند جدرانه على صورة لك، ثابتة بحضورك.. كحضورك فينا.
هي فطرة الحب.. وحب الفكرة.. والفكرة لا تموت.. كحبك فينا!
أذكر هذه الأيام وكأنها بالأمس، حين كان والدي (رحمه الله) يحملني بين يديه ويأخذني معه لكي نسمع خطابك، كنت أفرح وأهتف لك “لبيك” عندما تطل، رغم أنني لم أكن أعي معنى كلامك.. ولكني كنت أنظر إلى عينيّ أبي، أراهما تبتسمان حيناً، تدمعان أحياناً، تعبقان بالغضب لحظة.. وتملؤهما الحنية بعدها وهو ينظر إليك.. فعلمت أنك كثير الحضور.. كبير التأثير.. وعظيم الفكر.
غادرنا أبي، سلبه السرطان منا، وكنت كلّما شعرت بحرارة اليتم في قلبي، أثلجته أنت بكلماتك “يا أبنائي..”، فعلمت أنني رغم يتمي، قوية.. قوية لأني أملك أباً روحياً عظيماً، يفني حياته في سبيل أبنائه وبناته.
ذات مرة، حللت بشكل مباشر في أحد خطاباتك في مجمع “سيد الشهداء”، ليل العاشر من محرم، كنت حينها في 13 من عمري، لم أكن أعلم ما معنى أن يبكي المرء حباً، لكن في هذا اليوم بكيت…
بكيت عندما رأيتك مبتسماً، شعرت بأن قلبي سافر عني وذهب إليك، ذهب إليك وأنت الذي علمتنا أن نعيش بكرامة وأن نهتف بـ”هيهات منّا الذلة” بأعلى أصواتنا.
حينها، اختبرت شعوراً خاصاً، أسميته “شوفة السيد حسن”.
لطالما ارتبطت صورة السيد نصر الله في أذهاننا بصورة الأب، وما العلوّ الوجداني لصلته بالناس، إلا انعكاساً نقيّاً لحقيقته الأبوية الأطهر في تعاطيه معهم. فالسيّد الذي يسكن قلوب أحبّته ككبير بيوتهم، له في أرواحهم مرتبة الأب الحامي والحنون والمتفهّم والمساند والصارم والداعم والمعلّم، والذي يهب بكل حبّ ثمار تعبه إلى بنيه.
لم يكن السيّد نصر الله يومًا زعيمًا أو قائدًا بالمعنى التقليدي أو المتعارف عليه. هو الأقرب دائمًا إلى كونه الأب، ولذلك ليس غريبًا أن يناديه أطفالنا في بداية تعلّمهم للكلام بـ”جدو”، ما إن يروا صورة له أو يستمعوا معنا إلى خطاب له. بشكل أو بآخر، يقرأ الأطفال بفطرتهم النقية نبض آبائهم وأمهاتهم في محضر أبيهم، فينطقون بما قرأوا في الصلة.
نصر الله، الذي قاد أكبر قوة مقاومة في العالم، والذي استطاع أن يشكل خطابه معادلة ردع طويلة الأمد بوجه العدو الإسرائيلي، هو نفسه كان يقدم خطاباً تربوياً ـ إجتماعياً ـ أسرياً في شهر رمضان المبارك وفي أيام محرم العشر.
هو نفسه، الذي كان قائداً عسكرياً وسياسياً لتنظيم بحجم “حزب الله”، كان يخاطب أبناء جلدته بـ”لو سمحتو” إذا ما كان يريد منهم أن يخرجوا من الشارع مثلاً!
نصر الله المنشغل بإعداد ترسانة عسكرية كبيرة تواجه كيان الإحتلال، كان حريصاً على تسليط الضوء على مساوئ مواقع التواصل الإجتماعي، وآثارها على تدمير وتفكيك الأسرة.. وهو الذي قدّس الأسرة كما قدّس القضية!
حسنًا، يطول الكلام أو يقصر، ولا يتسع لتفسير ما معنى أن يكون قائدك أبًا لك، أو أن يهبك السكينة.
بشكل أو بآخر، لا يمكن للكلمات أن تترجم ماذا نشعر حين تتمتم “يا أبانا” في حضرة النموذج الأبوي الذي فاض إيثارًا وتضحية تذهلان العالم في كلّ يوم.
فقدت والدي، فزاد حبي لك، كنت أرغب بأن ألتقي بك، بأن أخبرك أن أبي رحل وهو يهتف “لبيك”.. وكنت أود أن أسير على دربه وأرحل هاتفة “لبيك”.. لكنك رحلت!
في كل خطاب لك، كنت أسرح بضع ثواني، بسؤال واحد لا يخطر غيره على بالي: “ماذا لو استشهد السيد حسن؟ حتماً سيصيبنا الجنون.. حتماً لن يبقى محب بعقله لهول هذه المصيبة وشدة وجعها”.. لكن سرعان ما كنت أمسح دموعي، وأكمل استماعي لخطابك وأصبّر نفسي بقول إن “أبي الثاني لن يتركني حتماً”..
أي وصف لا يوفيك حقك، كنت مصداقاً لآية “مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”.
كنت صادقاً في جهادك، حتى أسقطوا عليك عشرات أطنان المتفجرات كرمى لعيون فلسطين.
كنت صادقاً في وعدك للناس، ولم تتركهم تحت زخات الرصاص بينما أنت ساكن في قصر عاجي.. بل كنت معهم وبينهم وأمامهم.
يعز علينا الغياب، ويفجعنا الموت ولكن.. لنتجرد من أنانيتنا.. أمثالك لا يليق بهم سوى الشهادة نهاية.. ويحق لك أن تنال قسطاً من الراحة بعد سنين طوال من التعب، وأن يأخذك الله هذا الأخذ الجميل في أعلى مراتب الحب، وفي أشرف وأوضح معركة في فلسطين.
تركتني وأيتمتني للمرة الثانية..
أريد أن أعاتبك، أريد أن أبكي لك وأسألك لماذا تركتني؟ لماذا تركتنا؟ لا تعلم كم نحن بحاجتك؟
ستظل أنيسي، وسأظل أحبّك، حتى لو لم تعد..
آسفة لأولادك، لزوجتك وأحفادك وعائلتك وأحبابك.. أخذتك همومنا عنهم وحرمتهم من العيش مع أب تشع من وجهه الرحمة والأمان.. ومسؤوليتك فرضت عليهم أن يعيشوا بعيداً عنك.
أعلم جيداً مرارة اليتم، وأعلم عظيم المكانة التي تحملها الفتاة بقلبها لأبيها، فكلمات ابنتك زينب تتردد دائماً في بالي عندما سمعتها تقول خلال مقابلة تلفزيونية لها: “كل يوم عم بقرب التشييع أكتر، عم نزداد تهيباً أكتر، يمكن على الصعيد الشخصي أنا ولا يوم من الأيام كنت أرسم هيدا المشهد إنو السيد على الأكتاف، أو انو السيد سيشيّع، لكن بمحل أكتر كمان بدي يجي هيدا اليوم لإنو بستشعر بالحرمان يلي نحن عايشين فيه من 4 أشهر تقريباً، حرمان حتى من زيارة قبر سماحة السيد، إنو حتى بعد شهادته، عليه وضع أمني، حتى بعد شهادته محرومين من أن نزور ضريحه مثل أي أب مستشهد، فحابة إنو يصير في مكان اقدر إنو روح آخد راحتي عند الضريح واقرأ وابكي واحكي أنا وياه، وحتى إنو الناس أديش متشوقة، مع إنو هيدا الشي بآلمها، إنو لما أُتيح لنا أن نحكيه ونراه، كان في هذا المكان”.














