| زينة أرزوني |
“القيم الإنسانية، وفي طليعتها قيمة الحق في الحياة، هي مبادئ عالمية ثابتة، غير خاضعة للإستنساب ولا للمزاجية أو إلاجتزاء. فكما ندين ونرفض الاعتداء على أي مدني بريء في غزة أو في جنوب لبنان أو في اي منطقة من العالم، كذلك بالمبدأ والواجب نفسيهما، ندين ما حصل في سيدني”… للوهلة الأولى، عندما قرأت هذا التصريح، ظننت أن بلدة يانوح الجنوبية من ضمن المقاطعات والمدن الأسترالية، وأن الجنوب اللبناني بات ضاحية من ضواحي سيدني، وأن طيرهرما، وصفد البطيخ، وبرعشيت، تقع بين نيو ساوث ويلز وكوينزلاند.
الخطورة الكبرى لا تكمن فقط في الإدانة، بل في عدم معرفة طبيعة الجهة التي أُدين الاعتداء عليها، وكي لا أظلم الرئيس اتوقع أن مستشاريه كانوا غالباً في إجازة نهار الأحد، لانهم لو أعطوه تقريراً مفصلاً عن من قُتل أيضاً في الهجوم ربما لكان قد امتنع عن التصريح والإدانة. فمن باب العلم أن من قُتل في الهجوم هو الحاخام إيلي شلنغر، مبعوث حركة “حباد”، الذي انتشرت صورته بعد ثوانٍ من الهجوم على مواقع التواصل الاجتماعي وهو في اجتماع مع جنود من جيش الاحتلال لتقديم الدعم لهم في حرب الإبادة ضد أهالي وأطفال غزة الذين لا يزال يموت المئات منهم حتى اليوم بسبب الحصار والأمطار وسوء التغذية وغياب الطبابة وغرق خيامهم.
ولكن السياسة بخلاف الأخلاق المجردة، لا تُقرأ بالنوايا، بل بالوقائع، والوقائع تقول إن هذا التصريح جاء مباشرة بعد كلام بنيامين نتنياهو، وقبل تنديد الخارجية الأميركية، وفي توقيت بالغ الحساسية داخلياً وإقليمياً، وهنا تحديداً يفقد الكلام براءته ويكتسب أبعاده الخطيرة.
كلبنانية، يصعب عليّ ألا أرى في هذا التزامن خللاً فادحاً في ميزان الأولويات. فالرئيس الذي يفترض أن يكون صوت السيادة، وحارس الدم اللبناني، بدا وكأنه يستعجل تقديم “شهادة حسن السلوك السياسي” أمام الغرب، فيما الجنوب يُستباح، والجيش اللبناني يُهان بالخرائط الحمراء والتهديدات الجوية، ويُجبر على تفتيش منازل مواطنيه تحت ذريعة إسرائيلية ثبت زيفها لاحقاً، كما في حادثة يانوح.
الأخطر من ذلك، أن الإدانة التي صدرت عن رأس الدولة، لم تميز بين الضحية والجلاد، ولا بين حدث معزول في أقصى الأرض، وحرب مفتوحة تُشن يومياً على لبنان وفلسطين. فحين تُساوى الأمور على هذا النحو، يصبح “الحياد” شكلاً آخر من أشكال الانحياز، ويغدو الصمت عن الجريمة الأصلية مشاركة غير مباشرة فيها.
وليس تفصيلاً أن من قُتل في حادثة سيدني هو حاخام ينتمي إلى حركة “حباد”، تلك الحركة التي لا يمكن فصلها عن المشروع الاستيطاني الصهيوني، ولا عن خطاب السيطرة على “أرض إسرائيل الكبرى”. حركة انتشرت بيوتها الدينية حيثما تقدم النفوذ الإسرائيلي من غزة إلى الجولان، وصولًا إلى قرية حضر السورية، حيث أُعلن صراحة عن نية الاحتلال والاستقرار، لا عن صلاة عابرة أو طقس ديني بريء.
حين يُغفَل هذا السياق، وتُقدَّم الإدانة بوصفها موقفاً أخلاقياً مجرداً، فإننا نكون أمام عملية تجريد متعمدة للصراع من جذوره السياسية والاستعمارية، وهذا بالضبط ما تريده “إسرائيل”، ألا وهو تحويل نفسها إلى “ضحية كونية” فيما تمارس في الوقت نفسه القتل اليومي، والتهجير، والترويع، وخرق السيادة، من غزة إلى لبنان.
في لحظات التحول الكبرى، لا تقاس الكلمات ببلاغتها فقط، بل بتوقيتها، وبالدم الذي يسيل في اللحظة ذاتها. ومن هنا يصبح تصريح رئيس الجمهورية حول “القيم الإنسانية” وإدانته لما جرى في سيدني، أكثر من مجرد موقف أخلاقي عام بل يتحول إلى حدث سياسي بحد ذاته، يستدعي المساءلة لا المجاملة، والتحليل لا التبرير.
فبينما كان الجنوب اللبناني تحت النار، وبينما كانت الغارات الإسرائيلية تمزق الجغرافيا والناس، من طيرهرما بين ياطر وجبال البطم حيث سقط شهيد، إلى الطريق بين صفد البطيخ وبرعشيت حيث استُهدفت سيارة بغارة من مسيّرة إسرائيلية.. بدا أن الوعي السياسي يُدار بعقول مستشارين يبدو أنهم لم يفتحوا كتاباً، ولم ينظروا يوماً إلى خريطة، وإذا بنا أمام سقطة سياسية تتناغم مع سردية دولية انتقائية لا ترى الضحية إلا حين تكون خارج مرمى النيران الإسرائيلية.
الخشية الحقيقية اليوم، ليست فقط في تصريح هنا أو موقف هناك، بل في المسار الذي يوحي به هذا الخطاب، مسار يعيد إلى الأذهان سيناريوهات قديمة جديدة، حيث تُستخدم حوادث أمنية في الخارج، أو ادعاءات “معاداة السامية”، كذريعة لتوسيع رقعة الحرب، تماماً كما استُخدمت محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن عام 1982 لاجتياح لبنان.
وهنا لا يمكن إعفاء الحلقة المحيطة بالرئيس من المسؤولية، فهؤلاء المستشارون، إن كانوا موجودين أصلاً، إمّا جهلة سياسيا لا يميزون بين حركة دينية ومشروع استيطاني، أو انتهازيون يقدمون للرئيس ما يرضي الخارج لا ما يحمي الداخل، أو أنهم يدركون كل شيء ويختارون الصمت.
فعندما يقول نتنياهو إن “القادة توقفوا عن مواجهة معاداة السامية”، وعندما تتحدث “هيئة البث الإسرائيلية” عن تحذيرات لـ”الموساد” في أستراليا، ثم تتسارع الاتهامات لإيران… يصبح المشهد أكبر من حادثة، وأخطر من ردة فعل. نحن أمام مسرح عمليات سياسي ـ أمني متكامل، يُعاد فيه إنتاج مناخات الحرب، وتُختبر فيه قابلية المنطقة للاشتعال.
في هذا السياق، كان يُفترض برئيس الجمهورية أن يكون أكثر حذراً، أكثر التصاقاً بوجع بلاده، وأكثر وضوحاً في تسمية المعتدي. فلبنان الذي قدم آلاف الشهداء دفاعاً عن أرضه، لا يحتاج إلى دروس في الاعتدال من دولة تحتل، ولا إلى شهادات حسن سلوك من نظام دولي أثبت، مراراً، أنه لا يرى في دماء العرب سوى أرقام هامشية.
وفي لحظة كهذه، لا يُطلب من رئيس لبنان أن يكون “مرضياً عنه” دولياً، بل أن يكون وفياً لتاريخ بلاده، وصادقاً مع شعبه، ومدركاً أن الكرسي تحميه الكرامة.
للانضمام إلى مجموعة “الجريدة” إضغط على الرابط
https://chat.whatsapp.com/D1AbBGEjtWlGzpr4weF4y2?mode=ac_t
https://al-jareeda.com/archives/772279














