| جورج علم |
رحل التوافق، يوم رحل رجل الطائف، الرئيس رفيق الحريري، ولم يعد. جرت محاولة في الدوحة، لكنها كانت ظرفيّة، وانتهت مع انتهاء إنتخاب ميشال سليمان رئيسا للجمهوريّة. يدور البحث الآن عن “عريس” توافقي لـ”زفّة” 9 كانون الثاني، فأين نجده؟ وفي أيّ جيرة وعشيرة، إذا كانت الرماح المروّسة المخضّبة، لا تزال مرفوعة تدقّ النفير؟!
“حزب الله” يريد الرئيس، لكن يريد الضمانات قبله، ومعه. يريد الحرص أولاً على مكانته، ودوره في الداخل والإقليم، ويريد التمسّك بثلاثيته “جيش ـ شعب ـ مقاومة”، فيما الدولة تصرّ على تطبيق القرار 1701، من دون زيادة أو نقصان، وتريد السيادة كاملة غير منقوصة. أمّا المعارضة فسقفها تنفيذ القرار الأممي 1559، إلى جانب 1701، وتخلّي “حزب الله” عن سلاحه، وإنهاء كلّ شكل من أشكال البنى التحتيّة للدويلة، لصالح الدولة، والعودة تحت سقف الطائف.
هناك حراك في الداخل، ومحاولات تجري لـ”شمّ النسيم”. لكن ما يجري لغاية الآن هو لتلميع الصورة، وملء الفراغ بوعود مبتورة، ويكفي أن يكون هناك قدر من الإهتمام، تلمّعه بعض وسائل الإعلام، ليقال ان في الحركة بركة.. وإن الغد واعد!
قد يكون الغد واعداً حقّاً، لكن ليس على مفترقات الوطن المتفرّقة. المشكلة أننا كلّنا يحبّ لبنان، لكن كلّ على طريقته، ووفق أولويات مصالحه، وهذا ما يزيد من وضع العصي في دواليب التوافق، ليمنعها من الإقلاع.
منذ 14 شباط 2005 إنفكّ العقد، وتبعثرت حجارة القنطرة، وتحوّل الولاء ولاءان، والساحة ساحتان، وطفح الحقد، وإزدهر التكاذب، وهبّت أعاصير الفساد لتجتاح كل شيء، حتى الذمم، والقيم.
كيف يشقّ موكب التوافق طريقه وسط هذه الشعاب المفخّخة، وفي هذه الفترة المصيرية الحرجة على مستوى لبنان والمنطقة المترامية فوق فوّهات من البراكين المتفجّرة؟ قد يكون الوعد صادقاً في 9 كانون… ولكن ألا يستحسن أن ينبت الصدق أولاً في مساكب “أمراء الطوائف”، ومنذ الآن.. لنستبشر خيراً؟!
والحقيقة أن من يفترض به أن يحرّك مسار التوافق راهناً، إنطلاقا من ساحة النجمة، إلى مختلف ساحات الوطن، يرى نفسه مضطراً للحديث مع الأميركي والفرنسي لإستعادة الجنوب.
الجنوب هو نقطة الإرتكاز. مصير لبنان من مصيره. توافق لبنان من التوافق حوله، وكلّ كلام آخر هو نثر في الهباء، وثرثرة في الهواء.
علينا أن نعترف بمسلمات أصبحت ضرورة لنا، كالخبز والملح:
الأولى ـ أصبح الجنوب في عهدة “هيئة الرقابة” المشرفة على تنفيذ وقف إطلاق النار، ووضع القرار 1701 موضع التنفيذ، والتي يرأسها دبلوماسيّاً الأميركي آموس هوكشتاين، وعسكريّاً الجنرال جاسبر جيفرز.
الثانية ـ إن التنفيذ سيكون وفقاً لخريطة طريق تؤدي إلى هدفين: إستعادة الدولة اللبنانيّة سيادتها على “الجنوب المدوّل”.
وضمان مصالح الكيان الأسرائيلي الأمنيّة… والإقتصادية في ما بعد، عندما ينطلق إتفاق ترسيم الحدود النفطيّة في الناقورة نحو التنفيذ، بإشراف أميركي، وضمانات أميركيّة، وشركات أميركيّة ـ غربيّة مستثمرة…
الثالثة ـ الإنطلاق من الجنوب إلى الداخل، بإعتبار أن مسيرة التوافق تنطلق من الجنوب إلى بيروت، وليس العكس.
وهنا لا بد من التوقف عند الحقائق التالية:
• من يرعى مسار الجنوب، سيرعى مسار الداخل. والأميركي والفرنسي الشريكان في هيئة الرقابة على وقف إطلاق النار. شريكان في “الخماسيّة” العربيّة ـ الدوليّة التي تتولّى الملف اللبناني الداخلي منذ ما قبل أن يحتلّ الفراغ القصر الجمهوري في بعبدا.
• إن مقولة “رئيس صنع في لبنان”، هي “مزحة سمجة”، وكذبة كبرى من النوع الرديء، لأن من يملك حرفة “الصناعة الوطنيّة”، هو إما تاجر، أو مقامر، أو مغامر، أو سمسار، أو فئوي، وطائفي، ومذهبي، أو صاحب مصلحة يسعى إلى ضمان مستقبله، ونفوذه، في هذا الكيان المتهالك، قبل أن يبادر إلى إنتخاب “رئيس صُنع في لبنان”!
• هناك مقالات ومطوّلات حول المواصفات التي يفترض أن يتمتع بها الرئيس “التوافقي”. وهذا أيضاً من باب الفكاهة، والتسليّة، وهدر للوقت، لأن الرئيس التوافقي، حتى لو كان من مصاف الأبرار والقديسين، لا يستطيع ان يأتي بالمعجزات الخارقة لإنقاذ لبنان من غابة الطوائف. وماذا بإمكانه أن يفعل في ظلّ الصلاحيات التي حدّدها له دستور الطائف؟ وهل غاب عن الذاكرة صراع
الصلاحيات بين رؤساء المؤسسات؟
إن مواصفات “التوافق” التي تقدمها “الخماسيّة”، لا تقتصر على الرئيس، بل تشمل الحكومة، وفريق العمل الذي سيفعّل المؤسسات، وبرنامج العمل الذي يفترض أن يتضمن إصلاحات سياسيّة، وإقتصاديّة، وماليّة، ومصرفيّة، وإداريّة، وإستشفائيّة، وتربويّة…وهذا النوع من “التوافق” يخيف “أمراء الطوائف”، ويرفع من منسوب القلق في صفوفهم، لأنه سيكون على حساب “دويلاتهم”، مصالحهم، ومحصاصاتهم….
• إن لبنان الجنوب، والرئيس التوافقي، والإصلاحات، تشكّل بمجموعها جزءاً من مشروع الشرق الأوسط الجديد، بهندسة أميركيّة، ومتعهد أميركي، و”هولدنغ مالي” أميركي ـ أوروبي ـ غربي ـ عربي ستتوضح معالمه بعيد جلوس الرئيس المنتخب دونالد ترامب على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض.
إن لبنان في ظلّ “هيئة الرقابة”، و”هيئة رقابة” في ظل جنرال أميركي، يقف أمام منعطف مصيري لا تصلح معه كل المساحيق التي تتبرّج بها ثقافة الفساد. والذين أوصلوا لبنان ما قبل 14 شباط 2005، إلى ما هو عليه الآن، لا يحقّ لهم، أخلاقيّاً على الأقل، الجلوس حول الطاولة للمطالبة بضمان حصصهم في “كعكة” لبنان الجديد.. لأنهم لم يتركوا في إهراءات الوطن طحيناً، وخميراً، لصنع عجين هذه الكعكة!