مفاوضات فرنسية – سعودية – إيرانية حول لبنان.. “تسوية” بعد الانتخابات؟

/محمد حمية/

ثبُت بالتجربة والعين المجردة، أن التسويات في لبنان لا تأتي بصناعة محلية، بل بتفاهمات خارجية نتاج تقاطع مصالح إقليمية ـ دولية على ملفات المنطقة، ومن ضمنها لبنان. هذا ما حصل في صيغة الـ1943، وكذلك في اتفاق الطائف 1990، واتفاق الدوحة 2008، وصولاً إلى التسوية الرئاسية عام 2016، وما بينهم من تفاهمات وتسويات جزئية جرى “طبخها” في الخارج وتخريجها في الداخل.

لا يختلف اثنان على أن الأزمة الاقتصادية المالية في لبنان، في عمقها هي أزمة سياسية تتعلق بطبيعة النظام السياسي ـ الطائفي أولاً، وبالتركيبة الحاكمة وتضارب مصالحها ثانياً، وبالظروف الإقليمية والدولية الحاكمة والمتحكمة بالمشهد في المنطقة ثالثاً، وإن كانت السياسات الاقتصادية والمالية الخاطئة على مدى ثلاثة عقود، قد ساهمت في تعميق الأزمة الاقتصادية نحو قعر الهاوية والانهيار.

والحتمي أيضاً، أن لبنان لم يعد بإمكانه الإستمرار على قيد الحياة، وأصبح بأمس الحاجة إلى خريطة طريق إنقاذية لاستعادة نهوضه الاقتصادي قبل فوات الأوان، لكنه يحتاج الى تسوية سياسية داخلية ـ خارجية، تُظلّل أي خطة اقتصادية لانتشال لبنان من آتون الانهيارات المتتالية.

لم يعد خافياً أن انفجار الأزمة اللبنانية في 2019 كان بقرار دولي وأميركي ـ خليجي تحديداً في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، لأسباب عدة تتعلق بضرورات الاستراتيجية التي اتبعتها الإدارة الأميركية السابقة تجاه المنطقة، ومتطلبات الصراع مع المحور الإيراني ـ السوري ـ حزب الله، والتي ترجمت بسياسة العقوبات والحصار التي فرضتها واشنطن على طهران ودمشق (قانون قيصر) والمحور بأكمله. أما الهدف فكان قلب الطاولة على حزب الله، وتحميله مسؤولية الانهيار، لتأليب البيئة الشيعية والوطنية عليه، ويأتي إلى الانتخابات النيابية وهي في قمة الاستنزاف الشعبي والسياسي.

لكن بعد مُضيّ عامين على أحداث تشرين 2019، ثبُت للأميركيين والخليجيين، وتحديداً مع وصول الرئيس الأميركي جو بايدن الى البيت الأبيض، أن هذه السياسة باءت بالفشل ولم تُؤتِ ثمارها، وقد استدرك الفرنسيون أن استمرار هذه السياسة سيهدد المصالح الفرنسية والغربية في لبنان، مقابل توسيع رقعة نفوذ وحضور حزب الله ومن خلفه ايران. فكانت النصيحة الفرنسية للأميركيين بضرورة الفصل بين الصراع مع حزب الله وبين الملف المالي اللبناني، فسار الأميركيون بهذه النصيحة إلى حد تلزيم الملف اللبناني للفرنسيين.

لكن الدور الفرنسي غير كافٍ في بلد متعدد القوى والنفوذ الخارجي، ولا بد من استنساخ تجارب سابقة من الاتفاقات، ترتكز على ثلاثة “أقدام”: الأميركي والفرنسي ـ السعودي ـ الايراني عبر حزب الله.

بما يخالف الجو المُشاع عن ارتباط عودة السفراء الخليجيين، وتحديدًا السفير السعودي الى لبنان، يشير المطلعون إلى أن العودة، أبعد من الملف الانتخابي، وتتعلق بتمهيد الطريق وتهيئة المسرح لمرحلة “التسوية” ما بعد الانتخابات.

ويكشف المطلعون أن التدخل الانتخابي السعودي محصور بثلاثة أمور:

  • استعادة الشارع السني إلى “الحظيرة” السعودية، والتأكيد أن “المملكة” هي الأصيل والرئيس سعد الحريري هو الوكيل، وأن بإمكانها نزع “الوكالة” عنه وعمن تشاء.. وكذلك تثبيت حقيقة أن الحريري لا يمتلك الشارع السني، اضافة إلى لجم انجراف “سنة المستقبل” إلى “حضن” حزب الله.
  • توفير الدعم السياسي والمالي والانتخابي لرئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، وتثبيت حضوره في الساحة المسيحية، وتجميع “سنة المملكة” في لبنان مع الرئيس فؤاد السنيورة والمتسربين من “المستقبل”، ودفعهم لدعم لوائح “القوات” في مختلف الدوائر.
  • تجميع قوى الفريق الأميركي ـ الخليجي لنيل ثُلث مجلس النواب، والإقتراب من النصف قدر الإمكان، لتعزيز الفريق الأميركي في الاستحقاقات المقبلة في وجه حزب الله وحلفائه.

بدفعٍ فرنسي هائل، بدأت عملية وصل الجسور المقطوعة بين القوى الفاعلة في المشهد اللبناني، لانتاج تسوية فرنسية ـ سعودية ـ إيرانية تحصل ترجمتها بعد الانتخابات، ويكون لباريس دور أساس فيها من خلال إصلاح بنية الدولة وتلزيم قطاعات إنتاجية، كالكهرباء والمرفأ. وقد مهد ايمانويل ماكرون لهذه التسوية في لقائه مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان منذ عدة أشهر، والذي أكد على الدعم المالي والسياسي للبنان.

ويجري الهمس في الكواليس عن تحضير لمؤتمر “سان كلو” جديد في فرنسا، يجمع القوى السياسية اللبنانية على طاولة واحدة. وتشير مصادر مطلعة الى أن “الفرنسيين يعملون مع الايرانيين والسعوديين لعقد مؤتمر يختلف عن المؤتمر التأسيسي، لكنه أكبر من “الدوحة وأصغر من “الطائف”، يجري تثبيت دستور “الطائف” مع تعديل بعض بنوده أو تطويره، كإصلاح قانوني الانتخاب والامركزية الادارية، بشكلٍ لا يمُس جوهره كصناعة سعودية وفّرَ لها مكتسبات طويلة الأمد.

على ضفة أخرى من المشهد، تُدرك باريس أن أي تسوية لن يُكتب لها النجاح من دون مشاركة وتغطية حزب الله، الطرف الأقوى في المعادلة السياسية الداخلية من جهة، وكطرفٍ داخلي يُشكل الامتداد للمحور الاقليمي ـ الايراني ـ السوري.. لذلك وجب فتح خطوط التواصل وقنوات الحوار مع “حارة حريك”.. وتقول مصادر مطلعة على العلاقة بين “الضاحية” و”قصر الصنوبر” أنها علاقة جيدة، وتذهب إلى حد القول إن “السفيرة الفرنسية في لبنان آنا غريو باتت تحفظ طريق حارة حريك عن ظهر قلب”، في إشارة إلى الزيارات المتكررة للسفيرة إلى مبنى كتلة الوفاء للمقاومة على طريق المطار.

وتكشف المصادر أن التقارير والاحصاءات الانتخابية تعجُ في السفارة الأميركية في عوكر، وتجمع على أن تحالف المقاومة والتيار الوطني الحر سينال ما بين 70 و74 مقعداً، وبالتالي لا بد من عقد تسوية مع الأكثرية النيابية المقبلة التي يشكل حزب الله ركيزتها وعامودها الفقري وعقدة الوصل بينها. وتكشف أيضاً عن توجه فرنسي ـ أميركي ـ خليجي لتعويم حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بعد الانتخابات، مع تعديل في 4 وزراء ولحظ تمثيل عدد من القوى الجديدة التي ستدخل الى البرلمان.

وبرأي المصادر، فإن التوقيع النهائي على “الاتفاق النووي” الايراني، يشكل رافعة قوية للتسوية في لبنان، وتكشف عن حركة اتصالات فرنسية ـ سورية في هذا الاطار وخليجية ـ سورية، لإشراك دمشق في أي تسوية كضامن تاريخي لها.

وتلفت جهات مطلعة على “الحراك السعودي” في لبنان، الى أن “المملكة اكتشفت أنها أخطأت بقطع العلاقات الدبلوماسية مع لبنان والإنكفاء عن الساحة وتركها للنفوذ الإيراني، ما سيفقدها دورها وحضورها في المعادلة اللبنانية بشكل كامل، ويؤدي بالتالي للإطاحة بالطائف لصالح اتفاق جديد وفق موازين القوى المحلية والاقليمية الجديدة على شكل “مثالثة”، أو صيغة أخرى توسع نفوذ طهران على حساب الفريق الاميركي ـ الخليجي ـ العربي. لذلك سارعت المملكة، بتشجيع فرنسي وطلب أميركي، لاستعادة هذا الدور بشتى الطرق، عبر تسوية فرنسية ـ سعودية قادرة على تعويم لبنان سياسيًا واقتصاديًا.. قبل وقوع الإنهيار الكامل.