| زينب حمود |
حتى عصر أمس، بعد ثلاثة أيام على استهداف العدوّ الإسرائيلي مبنيَين مأهولين في شارع القائم في الضاحية الجنوبية، كانت ملامح الجريمة لا تزال حاضرة ومكتملة. مبنيان سُوّيا أرضاً، وحولهما أبنية تآكلت أطرافها، وتلطخت بالسواد، وتمزقت ستائر شرفاتها والثياب المعلقة على حبال الغسيل. جرافتان تقلّبان الركام بحثاً عن المفقودين، وخيمة نصبت لتوزيع الطعام والماء على عناصر فرق الإنقاذ والإسعاف المنهكين، ولتدوين أسماء الضحايا الذين يُعثر عليهم وشطبهم من خانة المفقودين. الغبار في كل مكان، والدخان لا يزال «يعسّ» من بين الحجارة، فيما رائحة «الجريمة» تملأ المكان. ضحايا الجريمة حتى يوم أمس «51 شهيداً و68 جريحاً، 53 منهم عادوا إلى منازلهم، فيما لا يزال 11 في عداد المفقودين، بعد انتشال جثتَي طفلتين» أمس، بحسب معلومات الهيئة الصحية الإسلامية.«لا شيء يخيفني أكثر من الإعلان عن انتهاء عمليات البحث عن المفقودين، ثم يأتي من يسأل عن مفقود تحت الأنقاض»، يقول مدير العمليات في بيروت في الهيئة الصحية مهدي الحلباوي، الذي يؤكد أنه لم يغادر الموقع منذ أن وقعت المجزرة، كما بدا واضحاً من صوته المتعب وثيابه التي تعبق برائحة الدخان والغبار. يشير إلى العشرات من أهالي المفقودين ممن يفترشون جانبَي الطريق المؤدي إلى مكان الجريمة، بانتظار مناداتهم للتعرف على الجثث، بعدما فقدوا الأمل بعودتهم أحياء، ويصلّون للعثور على جثثهم لئلّا يبقوا في عداد المفقودين. «يا ربّ ما يكونوا دايبين»، تنقل مريم عن أخيها متمنياً العثور على زوجته وابنه كما انتشلوا ابنه الآخر الشهيد هادي فواز. المفارقة أن «اللهفة» تعلو الوجوه لدى العثور على جثة، وكأنّ كل يتمنى أن تكون لمفقوده، لأن «احتمال ألّا تكون هناك جثة يبقى أشد قساوة»، على ما تقول إحدى المنتظرات.
فيما يقلّب عناصر الدفاع المدني بين الحجارة، تلقي فتاة نظرها نحو الأسفل وتدعو: «يا رب يطلّعوهم، صرلهم ثلاثة أيام، يا رب»، لدى سؤالها: «من لكِ هنا»؟ تجيب: «كلّهم»، بعدما خسرت تسعة من أفراد عائلتها، الأم والأب والإخوة والأخوات وأولادهم، لا يزال اثنان منهم مفقودَين. تتنقل بين ركام المبنى والرصيف الذي تجمّع عليه من بقي من العائلة الصغيرة والأقارب وشقيقة في حالة صدمة بعدما خسرت أولادها وأفراد عائلتها في لحظة واحدة.
وجوه الأهالي المتعبة تشي بالانتظار الصعب. يقضيه البعض في استعادة الذكريات مع المفقودين والضحايا الذين خرجوا قبلهم، ويستنجد آخرون بتمنيات أن «يكونوا قد خرجوا من المنزل قبل الغارة»، كما تتمنى جدّة تنتظر خروج حفيدها ووالدته، قبل أن تستدرك: «بس لو ضهروا ،كانوا رجعوا». يكسر صمت الجالسين العثور على «ألبوم» صور أو دفتر مدرسي أو أي من أغراض الضحايا. لكن، ليس هذا ما ينتظره الأهالي، بل الجثث، والتي كلما خرجت واحدة يهبّون لمعاينتها، ينظرون من زجاج سيارة الإسعاف، يفتحون بابها، ويسألون السائق عن هوية صاحبها.
ومع أنّ الفرق العاملة دوّنت أسماء المفقودين وبياناتهم لتطابقها مع الجثث التي تخرج، بما يسهّل الوصول إلى ذويهم، لكن «تشوّه بعض الجثث يصعّب المهمة، ولا يمكن تعريض الأهالي لهذه المشاهد المؤذية، كما أنهم لن يتعرّفوا عليها وهي بهذه الحال»، يقول الحلباوي، مشيراً إلى أن «هناك جثثاً لم يجرِ التعرّف عليها حتى الآن في انتظار إجراء فحص الحمض النووي». يحاول الأهالي الاستدلال على الجثث بأي طريقة. يسأل أحدهم مثلاً عناصر في الدفاع المدني بحيرة: «إذا نظّفنا الوجه ألا يمكن أن نتعرّف عليهم؟ أنا أعرفهم من عيونهم، أليست هناك أي عين مفتوحة؟». يقول الحلباوي: «لا تكفي الإشارة إلى عمر المفقود أو شكله الخارجي لتحديد هويته، وإنما يجب البحث عن علامات فارقة مثل ملابسه أو قلادة يرتديها. عندما نسحب الجثة نعرض الوجه إذا كان مكتملاً على أحد أفراد العائلة، أما عدا ذلك فنظهر جزءاً من الملابس فقط، أو قلادة أو سواراً، علّ ذلك يساعد في التعرف على هوية صاحب الجثة». ويلفت إلى «عقبات تعترض عمليات الإنقاذ، وخصوصاً أننا نبحث تحت مبنيَين، أحدهما من تسع طبقات والآخر من خمس، سقطا تحت الملجأ، وتشابكت سقوفهما»، وفي الوقت نفسه «نحرص على الدقة في البحث لعدم إيذاء الجثث، فما إن يظهر جانب منها حتى تتوقف الجرافات عن رفع الأنقاض ويبدأ البحث اليدوي». كل ما يحيط بالحلباوي ورجاله هنا، «لا يمكن وصفه، لكن مشهد الأب الذي أخرجناه وهو يحتضن ابنته لا يفارقني».