“الحمام الزاجل”.. فوق خطوط “التوتر العالي”!

| جورج علم |

وحّد العدو الإسرائيلي اللبنانييّن، وغلّف الشعور الوطني كلّ الإنقسامات السياسيّة، هذا يشدّ أزر المقاومة، ذاك يفتح المستشفيات، وثالث يتبرّع بالدم، ورابع يهتم بالإيواء، وخامس ينشط في المجالات الإجتماعيّة ليخفّف من وطأة المعاناة… وهذا من أبسط البديهات، وعندما يكون الوطن مستهدفاً، يصبح الدفاع واجباً.

كشفت الأيام الأخيرة صدق المشاعر، لكنّها لم تغيّر صدق التوجهات، وليس من المفاخرة بشيء أن يقف كلّ لبنان في وجه العدوان، فهذا أقل الواجب، ولكن الحروب والمواجهات تستدعي تعبئة وطنيّة شاملة تُسخّر لها كل الإمكانات المتوافرة، وهذا أمر لم يحصل في الثامن من تشرين الأول الماضي عندما فُتحت جبهة الجنوب فجأة كي تكون جبهة مساندة لـ”حماس”. وإذا كانت الصدمة الأخيرة الداميّة قد أحدثت تحوّلاً إيجابيّاً في المزاج الشعبي العام، فيجب ـ وقد آن الأوان ـ إستثماره على نطاق وطني واسع، وعن طريق فتح الباب أمام نقاش مسؤول حول كيفيّة المواجهة في ظلّ الفراغ على مختلف المستويات، والمتحكّم بالقدرات والإمكانات.

إن التضامن الإنساني الذي تجلّى مؤخّراً بمبادرات عدّة، لا يمكن أن يسمو إلى مصاف المسؤوليّة الوطنية، إلاّ إذا حرّك مبادرات محليّة سريعة لإنتخاب رئيس يظلّل بمواصفاته جميع “الجمهوريات اللبنانية”، ويحفّز الطاقات، والإمكانات، لإعادة إحياء المؤسسات، وبناء الدولة على أسس صحيحة، سليمة، وثابتة.

قد يكون هذا الكلام خارج سياق الحديث المتداول، ذلك أن الأسئلة الملحّة محشوّة هذه الأيام، بالبارود والنار، حول الردّ، وحجمه، ومفعوله، وهل سيؤدي خدمة لمشروع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التصعيدي التدميري، أم أن العقول الإستراتيجيّة الباردة، والتي لا يأخذها انفعال، تفكّر مليّاً، وبهدوء، ورصانة، وموضوعيّة، ومنطق علمي حول مواصفات اليوم التالي، وكيفيّة التفلّت من مخطط تغيير الخرائط؟!

مشروع نتنياهو واضح، يريد زجّ المنطقة بحرب إقليميّة واسعة، ويريد حمل الولايات المتحدة كي تحارب عنه، أو تتورّط إلى جانبه في المواجهة مع إيران تنفيذاً لبنك من الأهداف التي سبق له أن حدّد عناوينها وتفاصيلها، بالتنسيق والتعاون مع مراكز القرار في الولايات المتحدة، وتستهدف برنامج تخصيب اليورانيوم، والبرنامج النووي، والتخلّص من الدولة الفلسطينيّة، ودفن اتفاق “أوسلو”، وتفعيل محاولات تغيير الخرائط إنطلاقاً من غزّة، مروراً بالضفّة الغربيّة، وصولاً إلى القدس الشرقيّة، وأقلمة الأظافر الحادة، على طول جبهات المساندة.

ويبقى السؤال الملح، هل أن ما يريده نتنياهو تعارضه الولايات المتحدة، أم أن للإثنين مصلحة مشتركة، وبنك أهداف واضح مع تمايز شكلي؟ بمعنى أن واشنطن تعارض نتنياهو إعلاميّاً، ووسط “بروباغندا” واسعة من المواقف المتباينة، والتصريحات المشاكسة، فيما الدعم مستمر، وبقوّة، وبكافة الأوجه الماليّة، والعسكريّة، والمخابراتيّة، والأسلحة الحديثة الفتاكة، والقنابل الذكيّة، كلّ ذلك تحت شعار “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”؟!

إن “حزب الله” سيردّ. ومن حقّه أن يردّ، والمسألة ليست محصورة بالبديهيات، بل بشكل الرد، وقوته، وحجمه، والتداعيات التي قد يخلّفها. وهذه النقاط هي مدار بحث ضمن دائرة أوسع من حارة حريك، وأبعد من لبنان و”إسرائيل”. دائرة تشمل الولايات المتحدة، وإيران، ودول الإتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي، وروسيا، والصين، ومصير النفط في المنطقة إستخراجاً، وتكريراً، وتصديراً، وناقلات آمنة في البحر الأحمر على أبواب شتاء قارس في عموم الغرب، وأوروبا التي تفتقر إلى الغاز الروسي، ودوره المؤثر في الأسواق العالميّة على خلفيّة الحرب في أوكرانيا.

ولا يبدو ـ ظاهراً على الأقل ـ أن إدارة الرئيس جو بايدن ستنهي مسارها في البيت الأبيض بحرب مكلفة في الشرق الأوسط، تشرّع أبواب المنطقة أمام شتى الإحتمالات، بما فيها تدخل روسي، وصيني، وتركي، وأوروبي، لحماية حدود المصالح، واحترام الأدوار، ومواقع النفوذ فوق هذه البقعة الجغرافيّة الإستراتيجيّة والحيويّة.

حتى إيران التي تأثرت بشظايا العدوان الإسرائيلي السيبراني، لا يشغلها ضجيج تل أبيب، بقدر ما يشغلها عدم الوضوح الأميركي، فمن جهة تعلن واشنطن بأنها لا تريد الحرب، ومن جهة أخرى تمدّ نتنياهو بكرم حاتمي ليحقّق طموحاته. تارة تقول بإنها مع الحوار حول إتفاق جديد للبرنامج النووي، وتارة أخرى تندّد بجسور الصداقة ما بين طهران وموسكو، والتي تعبر فوقها الصواريخ الذكيّة الباليستيّة، لدعم الحليف الروسي في مواجهة الحلف الأطلسي في أوكرانيا. إيران التي أصيب سفيرها في بيروت، لا تنام على ضيم، إنها شريك حتميّ في الرد، وفي تحديد مواصفاته، وأبعاده، وتداعياته، ولأنها معنيّة، وبالمباشر، فإنها تحيك السجادة بهدوء، وأعصاب باردة، وحنكة، واحتراف، وبعد نظر.

قال المرشد الأعلى علي خامنئي قبل أيام: “لا ضير في التراجع التكتيكي أمام العدو، والتراجع في الميدانين العسكري، او السياسي”. موقف يبنى عليه. وتبنى عليه أولاً مصالح إيران الداخليّة، ودورها المحوري في المنطقة، وهي لا تقبل، ولا ترضى بأن يقرّر نتنياهو عنها، ويأخذها إلى حيث يريد، بل هي من يقرّر، ومن يتخذ المبادرة، ويحدّد توقيت الرد، وحجمه، وتداعياته على دول المنطقة، والخليج.

قد تكون بعض الرؤوس حامية في بيروت هذه الأيام، ولكن هناك فكر هادئ، مصمّم، دقيق، رصين، يخطط، ويوزّع الأدوار. بعد أيام على كلام المرشد، خرج الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ليعلن أن بلاده تريد أفضل العلاقات مع دول الجوار، ولا تريد تصدير الثورة، بقدر ما تريد نسج علاقات نديّة تمليها لعبة المصالح”. لم يتوار الصدى، وجاء الردّ سريعاً حيث أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وفي خطاب متلفز، أن “المملكة العربيّة السعوديّة لن تقيم علاقات دبلوماسيّة مع إسرائيل، إلاّ بعد قيام الدولة الفلسطينيّة المستقلّة، وعاصمتها القدس الشرقيّة”… ومن يفقه لغة الحمام الزاجل، يدرك هذه الأيام، أيّ أهميّة لدوره في زمن التكنولوجيا القاتلة!