| جورج علم |
تغيّرت العبارة، ومعها المعادلة. لم يعد الحديث في الصالونات الدبلوماسيّة عن ترتيبات أمنيّة في الجنوب، بل عن “فدراليّة أمنية” قد تُستتبع وتتطوّر لتصبح سياسيّة – إنمائيّة – اقتصاديّة .
طرح المستشار الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين، خطة من مراحل ثلاث: الأولى، وقف إطلاق النار، وعودة النازحين على طرفي الحدود إلى منازلهم، وتعزيز هذه العودة بزيادة عديد الجيش اللبناني، وعتاده، وإعداده ليشرف مع قوات “اليونيفيل” على استقرار المنطقة.
المرحلة الثانيّة إقتصاديّة، تحفيز الدول المانحة على المساهمة في إعادة إعمار ما تهدم، وزيادة ساعات التغذية الكهربائيّة، وتسهيل الحصول على الغاز من مصر، والكهرباء من الأردن، وإعادة النظر “بقانون قيصر”…
الثالثة: إطلاق المفاوضات لترسيم الحدود البريّة، وتنفيذ القرار 1701…
لا يزال الأخذ والرد يدور حول المرحلة الأولى.
أولاً ـ رفض “حزب الله” أي بحث حول وقف إطلاق النار في الجنوب، ما لم يتوقف في غزة.
ثانياً ـ يرفض الحزب أي بحث يتناول سلاحه. السلاح باق أيّاً تكن المعادلات، والمفاوضات، والترتيبات. رفض “الاستراتيجيّة الأمنية” في السابق، ويرفض أيّ “استراتيجيّة” تتناول سلاحه. المقاومة عنده من المقدسات، ولا يجوز المساس بالمقدسات.
ثالثاً ـ يرفض الحزب أيّ دور أمني تضطلع به القوات الدوليّة “اليونيفيل”، والجيش اللبناني يتقدم على دور المقاومة داخل بيئتها. وينظر بانتباه إلى ما تقوم به الولايات المتحدة على هذا الصعيد تحت شعار “دعم المؤسسة العسكريّة”.
ما من شك بأن الجيش يحظى باهتمام أميركي، خصوصاً في هذه المرحلة الصعبة التي يمرّ بها لبنان. وكان العماد جوزيف عون بالأمس القريب في واشنطن، ملبيّاً دعوة رسميّة. وعندما وصل هوكشتاين إلى بيروت زار القائد في مكتبه، وكانت الزيارة لافتة في الشكل والمضمون. في الشكل، تزامنت بُعيد عودة العماد من واشنطن حيث كان بحث مستفيض حول ما تحتاجه المؤسسة العسكرية. وفي المضمون، حول الدور المطلوب من الجيش وفق خطة هوكشتاين، ومواصفات اليوم التالي في الجنوب.
والكلام المتداول في الهواء الطلق، مختلف تماماً عن المتداول وراء الكواليس. هناك صعوبات، وتحفظات:
ـ إن أي مهام جديدة ستناط بالجيش يجب أن تكون صادرة عن السلطات الرسميّة المختصّة: رئيس الجمهوريّة، بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلّحة، ومجلس الوزراء بأكثريّة موصوفة. والواقع أن “فخامة الفراغ” هو الذي يشغل القصر الجمهوري راهناً، فيما الحكومة المستقيلة تشغل مهام تصريف الاعمال في السرايا الحكومي!
ـ إن الولايات المتحدة تدعم الجيش كما تريد هي، لا كما يحتاج هو. تقدّم له السلاح الذي يتناسب والمهمة التي عليه الإضطلاع بها، لا وفق حاجته، وشرطها الثابت الدائم أن لا سلاح يُعطى يمكن أن يشكّل خطراً على “إسرائيل”!
ـ أي سلاح يُقدّم، لن يكون بمستوى سلاح المقاومة. تملك الصاروخ، والمسيّرة، والأنظمة التكنولوجيّة، والأرض ـ جو، و”هدهد”، وأشكال، وأنواع مختلفة، في حين أن ما يصل إلى المؤسسة العسكرية معظمه من فضلات مخلّفات الحروب السابقة، من فيتنام وصولاً إلى أفغانستان!
ـ يرفض الجيش ازدواجيّة السلاح، وازدواجيّة الأدوار، وازدواجيّة المعايير على الساحة الواحدة، فإما هو السيّد الذي بجب أن يسود، وإما النأي بالنفس عن أدوار مشبوهة ستقود في النهاية إلى “اقتتال الأخوة”.
ـ هوكشتاين هو بطل رواية ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان و”إسرائيل”، هو نجم إحتفال 27 تشرين الأول 2022، تاريخ توقيع وثيقة التفاهم. ويعرف تماماً موقع “حزب الله”، ودوره، وتأثيره. تلطّى الحزب يومها خلف الدولة اللبنانية، وقال بأن المعجن الذي تعجن فيه، يأكل من خبزه. لكن في الحقيقة كان دوره الأقوى، وكان يعرف ماذا يريد، وربما وصل إلى الذي يريده!
ولا مانع لدى هوكشتاين من ترجمة رواية البحر إلى البر. حجّته أن مركب الترسيم ما كان ليعبر الأنواء، لو لم تسعفه مجاذيف الحزب، وأن التجربة الأمنيّة التي شهدها الجنوب منذ آب 2006، ولغاية 8 تشرين الأول 2023 كانت مثالية من حيث الهدوء والإستقرار، والإزدهار، والبناء، والإعمار، على الرغم من وجود المقاومة برجالها، وسلاحها، وعتادها، وعديدها على طول “الخط الأزرق”!
إن التعويل على هذه التجربة أمر مطروح تحت شعار “ترشيق المبادرة”، وعلى قاعدة: “الأرض للمقاومة، فيما الجيش و”اليونيفيل” لمهام استثنائية ـ سياديّة عليا. بمعنى “الأمر للمؤسسة العسكريّة” يكون متماشياً مع ظروف استثنائيّة قصوى طارئة، ولمهام أمنيّة محددة، منسّقة جيداً، وتحظى بتغطيّة سياسيّة معنويّة مستمدة من الحكومة المركزيّة.
إن “فدرلة الأمن” قد تكون مطلوبة لتشكل مدخلاً يؤدي إلى “فدرلة” الجنوب، سياسيّاً وماليّاً واقتصاديّاً وإنمائيّاً. وربما أيضاً.. لتعميم هذا النموذج على مناطق أخرى، تحت مظلّة سلطة مركزيّة قويّة، قادرة، وفاعلة.
خلال إطلالته الأخيرة قال السيد حسن نصر الله، إن ملف الجنوب حاضر إلى جانب “الملفات الأخرى”… وهذا صحيح… لكن بقي معرفة، “أيّ جنوب؟ وأيّ تسوية؟ وأيّ دور للمقاومة وسلاحها؟”… خصوصاً أن أصواتاً ترتفع من الضفة الأخرى للوطن، وتقول بالفم الملآن: كلما قوي سلاح المقاومة، كلما ضعف لبنان الصيغة، والميثاق، والعيش المشترك. وكلما استمر هذا السلاح، كلما اضمحل لبنان التعددي. سلاح طائفة لا يمكن أن يحكم ويتحكّم ببلد الـ18 طائفة!