| جورج علم |
تتناثر على الطريق نحو القدس، أسئلة بسيطة. ملايين من الدولارات تحترق يوميّاً ثمن القذائف، والصواريخ، والمسيرات التي تستخدم كوقود في حرب الإستنزاف. من يملك هذا الشلال الذي لا ينضب من الملاييّن؟ من يجود بهذا الكم من الأسلحة الحديثة المتطوّرة لإستخدامها على طول جبهات “المساندة”، خصوصا جبهة الجنوب؟ وما الهدف، أو مجموعة الأهداف التي يسعى “الكريم المتكرّم” إلى تحقيقها من خلال إغراقه جبهات القتال بالأسلحة النوعيّة؟
يفترض بالأسئلة البسيطة أن تستحوذ على أجوبة بسيطة. إنها حرب مفتوحة تخوضها إيران ضدّ الولايات المتحدة و”إسرائيل”، بالوكالة، ومن خلال ما يعرف “بمحور الممانعة”، وبواسطة ميليشيات حليفة متعاونة. ولا يمكن أن تهدأ إلاّ بحرب ضروس تنتهي إلى غالب ومغلوب. أو بتسوية كبرى يتخلّلها تنازلات من قبل الأطراف المعنيّة للوصول إلى مساحة سواء.
المساران متوازيان، لكن لم يلتقيا لغاية الآن. جبهات الحرب مشتعلة، وجبهة المفاوضات مفتوحة بحثاً عن تسوية لم تكتمل مواصفاتها بعد. واستطراداً لا يمكن التعويل على الحراك الراهن للموفد الأميركي آموس هوكشتاين. وكما جاء قبله الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان في “سياحة دبلوماسيّة”، دون أن يرفد مبادرته بـ”أمصال” منعشة، هكذا يأتي هوكشتاين ليمارس “سياحة دبلوماسيّة” في وقت صعب، مغلول بأصفاد محكمة الإطباق.
يأتي قبيل الانتخابات الرئاسيّة الإيرانيّة. الحدث له “بروفيله” الخاص. لا أحد يقول إن طهران تقطع أنفاسها تحسّباً للإستحقاق الرئاسي، وتنصرف عن الإهتمام بملفات حيويّة أخرى، لكنها تعرف كيف تغتنم المناسبة، لترتّب أولوياتها، وفق مقتضيات مصالحها.
ويأتي في وقت تجتاز فيه مبادرة الرئيس جو بايدن مطبات هوائية خطرة حول غزّة، ومواصفات اليوم التالي، ومصير الرهائن، ومستقبل القطاع.
لو نجحت، وخطت المبادرة بعض الخطوات إلى الأمام، لكان الرهان ممكناً في التعويل على نجاح ما لمهمة هوكشتاين. لكن أن يتزامن حراكه مع فوضى عارمة تلفّ المبادرة، فهذا أشبه برمية حجر في البركة الهامدة لرسم بعض الدوائر المتحرّكة على سطح المياه الراكدة، والتي سرعان ما تزول، ويختفي أثرها.
ويأتي وسط مناخ سياسي عاصف في تل أبيب، داخل حكومة بنيامين نتنياهو، وخارجها، الأمر الذي يجوّف مبادرته من أي محتوى يمكن البناء عليه، خصوصاً إذا ما اتجهت الأمور نحو انتخابات عامة مبكرة.
يتحدّث البعض عن “وصفة سحريّة” يحملها. قد يكون مثل هذا الإفتراض ممكناً لو هدأت الأنواء في بحر غزّة، أما أن يقتصر السحر على جبهة الجنوب من دون سواها، فهذا استعصاء يتجاوز البعد اللبناني المحلي، إلى ما هو إقليمي، ودولي، كون الجنوب جبهة مفتوحة بسواعد لبنانية لخدمة أغراض إقليميّة، أولها مساندة “حماس” في غزّة، وآخرها تمكين من يقدّم المال والسلاح والخبرات أن يرسم حدود مصالحه من بحر غزّة، إلى البحر الأحمر. ومن باب رفح، إلى باب المندب، وسط صخب عربي ـ إسلامي، لا ينتج سوى السراب.
هناك العديد من المؤتمرات العربيّة والإسلاميّة حول غزّة، والكثير من البيانات والمواقف حول ضرورة وقف إطلاق النار، وتقديم المساعدات، لكن من دون جدوى، فيما المسار الذي يرسخ أقدامه على أرض الواقع، هو مسار تفتيتي بإشراف أميركي، ورغبة إسرائيليّة، وتغاضٍ دولي.
لا شك أن فواجع غزّة تفرض أولويّة لا تتقدّم عليها أي أولوية أخرى، لجهة البحث عن حلول عادلة ومنصفة. لكن في موازاة ذلك هناك فواجع لا تقل أهميّة، إن في السودان، أو ليبيا أو بعض الأقطار الأخرى، المزنّرة بصواعق، وأحزمة ناسفة ترسم الكثير من علامات الإستفهام حول المستقبل، والمصير. هل تعود ليبيا موحّدة؟ ماذا عن السودان؟ ماذا عن لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، إذا ما إستمر التمدّد “الثوري” باتجاه شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وبحر العرب، وصولاً إلى البحر الأحمر، واستمر التحكّم بعواصم عربيّة أربع؟
وما يثير الريبة أن أمن “إسرائيل” فوق أي إعتبار بالنسبة للولايات المتحدة.
وعشية السابع من تشرين الأول الماضي حشدت أسطولاً من حاملات الطائرات، والمدرّعات، وما جادت به الترسانة الأميركيّة من أسلحة حديثة، لتحقيق هدفين: الدفاع عن تل أبيب، وعدم توسيع نطاق الحرب ضدها، في حين لم تقدم، ولم تفعل دفاعاً عن أي دولة عربيّة مهددة، أو محتلة أراضيها من قبل “إسرائيل”! بل على العكس، حيث حلّت دمّرت، وجاءت إلى العراق تحت شعار نشر الديمقراطيّة، وحقوق الإنسان، ففجّرت بناه التحتية الرسميّة، والمجتمعيّة، والأمنيّة، والإقتصاديّة، والماليّة، والثقافيّة، وتركته يتخبط بصراعاته الطائفيّة، والمذهبيّة، والفئويّة، والمناطقيّة.
وفي ظلّ حربين مفتوحتين، في الشرق الأوسط وأوكرانيا، تتسلل أسئلة بسيطة تبحث عن أجوبة غير معقدة:
– هل صحيح أن زعماء المئة دولة الذين اجتمعوا على مدى يومين في سويسرا بحثاً عن السلام في أوكرانيا، يريدون السلام؟ وكيف يكون ذلك في ظلّ إقصاء روسيا عن المؤتمر؟
– هل صحيح أن الإدارة الأميركيّة تريد دولة فلسطينيّة ضمن مسار حل الدولتين، أم تعوّل على هذا الشعار لتمكين “إسرائيل” من التحكم، أمنيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً، بمستقبل القطاع؟!
– هل صحيح أن آموس هوكشتاين يريد أمن الجنوب وفق مقتضيات المصلحة اللبنانيّة، أم المصلحة الإسرائيلية، وهو في المنطقة برغبة ملحة من حكومة تل أبيب؟!
…لقد اجتهد اللبنانيّون في تحويل وطنهم إلى ساحة للصراعات الدوليّة ـ الإقليميّة… والآن ينتظرون ما سيجود عليهم الخارج من فتات وفضلات!