“لبنان الكبير” يخلع “رداءه” الميثاقيّ!

| جورج علم |

هل “لبنان الكبير” لا يزال بحاجة إلى المسيحيّين، وتحديداً الموارنة؟ وبكلام أكثر دلالة، هل لا يزال “لبنان الكبير” حاجة، وضرورة للمسيحيّين، وتحديداً الموارنة؟

قد يبدو السؤال إستفزازيّاً لدى البعض، وتقسيميّاً تفتيتيّاً لدى البعض الأخر، لكن الواقعية تقضي بالتوقف مليّاً عند مسارين:

الأول، أن “جائحة” إعادة ترسيم الحدود قد بدأت عمليّا في أوكرانيا، وانتقلت إلى ناغورني كارباخ في أذربيجان، وهي تسرح الآن وتمرح على مسرح الشرق الأوسط، إنطلاقاً من غزّة، مروراً بلبنان، وسوريا، والعراق، وصولاً إلى اليمن.

الثاني، أن قطار الإعتراف بالدولة الفلسطينيّة قد انطلق من إيرلندا والنروج وإسبانيا، وأمامه محطّات كثيرة قبل أن يبلغ نيويورك، ومجلس الأمن الدولي، لتكريس “حل الدولتين”. وهذا يعني أن جغرافيات بعض دول المنطقة، بعد قيام الدولة الفلسطينيّة، ستكون مختلفة عمّا هي عليه الآن.

وهناك فائض من الأسئلة المصيريّة التي تزنّر بعض دول الإقليم، لا بدّ من أن تحظى عاجلاً أم آجلاً بالأجوبة المناسبة لها: أيّ غزة ما بعد انتهاء الإجتياح؟ أيّ دولة فلسطينيّة؟ أي لبنان في ظلّ حرب الإستنزاف، والفراغ المتمادي؟ أي سوريّا؟ هل يكرّس الأمر الواقع على الأرض، أم أن خرائط جديدة هي على الطريق؟ أي عراق؟ وهل هو ذاهب نحو فدراليات، أو ربما كونفدراليات؟ ماذا عن اليمن؟ هل يبقى موّحداً، أم يعود إلى شمال وجنوب، وربما أكثر؟

هناك خرائط تُعدّ. والبعض يقول إنها قد أصبحت جاهزة، قيد التنفيذ! والقرار ليس هنا. إنه عند صُنّاعه، في مطابخ الدول الكبرى النافذة. هنا حقل الإختبار، والميدان المفتوح أمام صولات وجولات تؤدي في النهاية إلى متغيّرات، تفرض نفسها كأمر واقع.

إنتقل لبنان الفراغ إلى الإنتظار. ينتظر الخارج، وما ستقرره الدول المهتمة، ينتظر منها الأجوبة النهائية حول أيّ ترسيم حدود بريّة؟ أي تركيبة سياسيّة؟ أيّ نظام؟ أيّ دور ووظيفة؟ لقد أدّى أمراء طوائفه قسطهم للعلى. دمّروا كلّ ما يستطعون تدميره، وينتظرون الآن ما سيجود عليهم الخارج من خيارات!

شخّص بعضهم المرض. قال يوماً إن العلّة تكمن بـ”المارونيّة السياسيّة”. وبدأت حروب التصفية، وانتهت بإتفاق الطائف. الغالبيّة أشادت به قبل الإنقلاب عليه. وعندما حلّت مئوية “لبنان الكبير” في الأول من أيلول 2020، جاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى قصر الصنوبر، وطرح مبادرة إنقاذيّة على أمراء الطوائف لعلّ وعسى، لكن ما إن غادر حتى عاد التعطيل والفراغ.

أنهى الطائف دور “المارونيّة السياسيّة” لصالح “دولة المؤسسات”. لكن لا الطائف طبّق، ولا المؤسسات هبّت ريحها، والذي حصل كان أشبه ببرج متألق، بناه بناؤون عصاميّون، وتركوه أمانة في أيدي ورثة مشاغبين هدموه حجراً بعد حجر، وهم يهزجون من حوله، ويتدافشون على نهب بما تبقى.

كان لبنان، عندما كانت “المارونية السياسيّة”ّ، مستشفى العرب، جامعتهم، مصرفهم، منتجعهم. إنفتاح ثقافي، وسياسي، وإقتصادي، وإجتماعي، وحريّة فكر، وتعبير، وصحافة مميّزة… فماذا ترك من “تقمّص” دورها؟ وأين أصبح لبنان اليوم؟ وفي أي حال؟!

ثمة دعوات إلى الحوار والتشاور، لكن حول ماذا؟ ما هو جدول الأعمال؟ وكيف يكون ذلك في ظلّ المصادرة المسلّحة للوطن؟ إذا كان الهدف من الحوار انتخاب الرئيس، فآليّة الإنتخاب واضحة في الدستور لا تحتاج إلى تفسير أو اجتهاد. وإذا كان الهدف مناقشة الدستور، والبحث عن آلية جديدة، فهذا يعني رغبة البعض في التوجّه نحو مؤتمر تأسيسي. وحتى هذا “المؤتمر” لو أتيحت له ظروف الإنعقاد، وكان هناك إجماع حوله، ونوايا صادقة تجاهه، فلن يكون انعقاده متيسّراً، ولا نتاجه مضموناً، لأن هناك ملفات لا قدرة له على معالجتها من دون حاضنة خارجيّة. وأي إصلاح مالي ـ إقتصادي ـ إجتماعي ـ بنيوي لن يكون متاحاً إلاّ إذا كان صندوق النقد الدولي حاضراً إلى الطاولة، مع شروطه، ودراساته، وتقييماته. التجارب أثبتت ذلك.

ويشكّل التوطين والنزوح، خطراً ديموغرافيّاً، يستحوذ على الكثير من الإهتمام، إن في الفضاء السياسي، أو الفضاء الإعلامي، لكن المطحنة اللبنانية لا تنتج طحيناً رغم كثرة الضجيج، لأن الإهراءات في الخارج. الملف الفلسطيني يشغل العالم، من الولايات المتحدة، إلى الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والدول الخمس الكبرى الدائمة العضويّة، والجمعيّة العامة للمنظمة الدوليّة، ودول الإتحاد الأوروبي، وعلى لبنان أن ينتظر النهائيات وتداعياتها. يضاف ملف النزوح المقيّد بمندرجات القرار الدولي رقم 2254 الخاص بسوريا، وقانون قيصر الأميركي، مع إصرار دائم من بروكسل، وسائر عواصم دول الإتحاد الأوروبي، على ضرورة الدمج ، والإستيعاب!

وفي زمن تغيير الخرائط، إحتفل الموارنة والمسيحيّون بمئويّة “لبنان الكبير”، بغصّة، وإعادة نظر، واضعين عند المنعطف لاءات مصيريّة ثلاث:

• لا يمكن الإنصهار في وطن يصرّ بعض أهله على مصادرة مقوماته في بقجة مصالحه الخاصة، يحملها على ظهره هديّة إلى “وليّ أمره”.

• لا يمكن الإنصهار في وطن يحكمه الفساد، والسلب، والنهب، والنكد السياسي، والفئوي، و”ما هو لنا، هو لنا وحدنا. وما هو لكم، هو لنا ولكم”. إن التجربة المستمرة منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان، تاريخ 30 نيسان 2005، لغاية اليوم، قد أثبتت مدى الحاجة إلى وصيّ خارجي.

• لا يمكن الإنصهار بوطن، وظيفته استيعاب مصائب الآخرين، فوق مصائبه، على أرضه.

ومن سعى يوماً ليكون لبنان الجوهرة المتألّقة في العقد العربي، يحيّره اليوم سؤال مصيريّ: هل هذا “الكبير” الذي تختلّ فيه التوازنات، ما زال حاجة للمسيحيّين، والموارنة؟!