/ فاطمة ضاهر /
في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية الصعبة في لبنان، وأهمها الأزمة الصحية، لا تزال الدولة اللبنانية غير قادرة على تأمين أبسط الحقوق للمواطنين، أكانت حقوقاً مدنية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، فهي جميعاً حقوق متأصلة في كرامة كل كائن إنساني.
مع تدهور سعر الليرة اللبنانية، مقابل ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء، ارتفعت أسعار السلع والبضائع والمواد الغذائية والصناعية، وأسعار الألبسة والمحروقات… وغيرها من اللائحة التي لا تنتهي.
مقابل هذا الارتفاع، أصاب المواطن اللبناني هبوط في وضعه الاقتصادي والمعيشي على الخصوص، وصولاً الى اضطراب في العيش وقلق وخوف مستمرّ من المستقبل في لبنان.
ويُذكر من هذه الحقوق، العيش بكرامة من دون الحاجة لمد يد العون، وإعطاء ذريعة للسارقين لمزيد من السرقات، التي ازدادت في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ، ومعظمها يرتبط بحاجة المواطن لتأمين لقمة العيش، وفي معظم الأحيان لتأمين الاستشفاء والطبابة للأهل والأقرباء.
قضية الاستشفاء والطبابة، هي من أكثر المواضيع الحساسة، والتي تؤجج مشاعر الغضب والاستياء لدى المواطنين، الذين يعجزون عن تأمين الكلفة اللازمة للحصول على العلاج المناسب، في الوقت المناسب، للأطفال وباقي أفراد العائلة والأهل.
وبينما المواطن اللبناني يناضل في سبيل لقمة العيش، ويعاني من الأزمات المتراكمة في البلد، التي لا تُرمى إلّا على عاتقه، وفي خطوة صادمة، جاء قرار نقابة الأطباء في لبنان برفع بدل الحدّ الأدنى للمعاينة الطبيّة، مما أضاف عبئاً جديداً على كاهل المواطن، خصوصاً أن البدل حددته النقابة كحدّ أدنى، ما يعني أن الأطباء سيكون بمقدورهم تحديد بدل أعلى، وهو ما قد بدأه بعض الأطباء فعلاً، فوق الحد الأدنى الذي حددته النقابة بـ 300 الف ليرة المعاينة الطبية للطبّ العام، و400 الف ليرة المعاينة الطبية للطبّ المتخصص.
الطب البديل والمستوصفات
ارتفعت نسبة الوفيات على أبواب المستشفيات، بسبب عدم قدرة المواطن على دفع ما تطلبه المستشفيات كـ”تأمين” لتلقى العلاج، أو إجراء عملية جراحية، أو حتى المكوث لليلة واحدة في المستشفى، وتحدّد مبالغ كبيرة، قبل تشخيص حالته أصلاً. وفي حالة المضمونين، أو المنتسبين إلى شركات تأمين، مهما كانت الفئة، فهم أيضاً متضررون لأن الدولة عاجزة عن تأمين الفوارق النقدية.
كما ارتفعت نسبة الأمراض بين المواطنين، بسبب عدم قدرتهم اللجوء الى الطبيب المختص بحالتهم المرضية، وإنما يستعينون بدلاً عنه بخبرة الصيدلاني لتشخيص حالتهم وإعطائهم الدواء الذي يراه مناسب، أو يلجأون إلى الطب البديل ووسائل أخرى، بغض النظر عن المخاطر الصحية، في ظل الغلاء الذي يعصف بأسعار الغذاء والدواء، وكل ذلك لتوفير بدل المعاينة الطبية.
ويُشار الى أن “الطب البديل”، الذي يعتمد في أساليبه العلاجية على الأعشاب الطبية، والطب الصيني والوسائل الشبيهة، قد عاد ليأخذ حيّزاً كبيراً في مجال الطبابة في لبنان، بعد أن كان ملجأ الفقراء فقط، قبل الأزمة الاقتصادية، أصبح ملاذ معظم الطبقات الاجتماعية التي تسعى لتوفير كل ليرة من مدخولها في سبيل المتطلبات الحياتية الأخرى، وبات ينافس الصيدليات في كونها مقصداً للمرضى، الباحثين عن أدوية تشفيهم وتخفف آلامهم.
كما شهدت المستوصفات اكتظاظاً غير مسبوق من المرضى ومن مختلف الأعمار والأجناس، في حين كانت تسود فكرة، أن من يذهب الى المستوصف يشعر بالخجل، ويعتبر نفسه أقل من غيره في المجتمع، من الناحية المادية.
أصبح المستوصف ملاذاً يستطيع المريض من خلاله تلقي العلاج، بعيداً عن صرف معاشه أو مدخراته عند عيادة طبيب خاصة، لأن المستوصف يستوفي قيمة متدنية ورمزية عن المعاينة، ويقدم الخدمات الطبية بشكل شبه مجاني.
كثير من المواطنين اللبنانيين لا يتقاضون أجوراً تساعدهم على تأمين متطلبات الحياة، فكيف بالطبابة والاستشفاء والأدوية التي، إن وُجدت في الصيدليات، تكون بأسعار خيالية، وفي كل مرة يقترح الصيدلاني على المريض دواء جديد بتركيبة مشابهة، بحجة فقدان الدواء في الأسواق، أو بالأحرى احتكاره في مستودعات خاصة بهم، بانتظار رفع الدعم عنه ليتم إعادته الى السوق بشكل طبيعي جداً.
القطاع الصحي اللبناني “يحتضر”!
الواقع الصحي في لبنان “يحتضر”، ليس باستطاعة المواطن زيارة الطبيب، إلا لمن لديه مدخول شهري كبير، أو لمن لديه مدّخرات يحتفظ بها لـ”اليوم الأسود”.
“على الأقل، إن لم تسطع الدولة تأمين الطبابة والاستشفاء بشكل مجاني أو شبه مجاني، ولم تقدر على تحسين المدخول الفردي وخلق فرص عمل للعاطلين عنه، أن تترك المواطنين بهمّهم وعدم رفع الأسعار كلما سنحت لهم الفرصة”..
هذا ما قالته مواطنة لبنانية تعاني من أمراض مزمنة، لموقع “الجريدة“، خلال جولة على بعض المستوصفات التي باتت ملاذ الأفراد من ذوي الدخل المحدود.
الشاب فادي ك. البالغ من العمر 23 عاماً يشكو همه قائلاً:
“الوضع بلبنان سيئ جداً، ماعاد فينا نروح عند الحكيم لأن ما معنا مصاري، والمعاش بكفي بس اجار طريق. أنا من الاشخاص اللي عندن مناعة ضعيفة، يعني معرّض لأي عارض صحي بأي وقت، وكل فتره لازم شوف حكيم، بس للأسف صرلي فترة ما زرت الحكيم لأن بدو يطلبلي فحوصات وأدوية مش موجودة، وإذا موجودة بأسعار خيالية، وأنا أنجأ معي إدفع فحصيته… واذا المعاينة الطبية ارتفعت بلا الحكيم وبلا الفحصية”.
حليم م. الذي يجلس في غرفة الانتظار المكتظة بالأشخاص المنتظرين دورهم، في أحد المستوصفات في بيروت، يتحدّث مع مريض يجلس إلى جانبه عن رفع المعاينة الطبيّة:
“القصة مش بس قصة فحصية غالية، القصة انو مع ارتفاع معاينة الدكتور، كمان ما عم يرحم بوصف ادوية وصور وفحوصات بدي معاش شهرين وتلاتة لادفعهم. يعني فحصية دكتور مع علبتين دوا عم تكلف أقل شي مليون ليرة، وأصلا الدكاترة بلبنان من دون ما يطلع القرار كانو عم ياخدو ٥٠٠ الف معاينة، فكيف هلأ؟ لوين واصلين وشو بعد بدن؟!”.
سيدة متقدمة في السن، تجلس في زاوية صالون الانتظار، كانت تستمع إلى حديث حليم، تدخلت بصوت متهدّج:
“الطبيب لازم يكون عنده رساله إنسانية، قبل المادية، نحن بشر معرضين للأمراض، والدولة بدل ما تساعدنا وتعمل شي للحالات الاستثنائية والمستعصية، عم تستغلّنا وتزيد المعاينة وتتركنا بلا مساعدة، ندبر حالنا بحالنا، أصلا يمكن هيدا الهدف من رفع الفحصية.. بدن يموتونا عالبطيئ.”
ترتفع وتيرة الحوار مع مشاركة أكبر من المنتظرين في صالون الانتظار. تقتحم الحديث سيدة تمسك بيد ولدها وكأن هناك من يريد أخذه منها:
“أنا أم لأربعة أولاد، عندي ضغوطات نفسية كتير قبل الأزمة الاقتصادية، وزادت أكتر بسبب هيدي الأوضاع الزفت، وخصوصاً بس شوف اولادي مريضين وما قادرة اخدهم عند الحكيم، أنا وزوجي منيح لي عم نقدر ناكل ونطعمي اولادنا.. كيف اذا بدي حكمهم”.
ويختصر علي ك. حالة كل مواطن لبناني يعاني في بلد تنقص فيه أدنى متطلبات العيش:
“الله لا يسامحن ولا يوفقن يللي وصلونا لهاي المرحلة من الذل والضعف والضغط الاقتصادي والنفسي، خلونا ننهش بلحم بعض وهني ما فارقة معهم، ولو.. وصلت معهم لفحصية حكيم!”.
هذه عيّنة صغيرة جداً بالعدد، إلاّ أنها تعبّر عن حالة المواطن اللبناني في ظل الأزمات الاقتصادية والصحية، وكأن نقابة الأطباء ترى ان المواطن يعيش برفاهية وراحة مطلقة، فارتأت أن تزيد عليهم الأعباء التي تنغّص عليهم عيشهم، وتستوفي من مداخيلهم وتجبرهم على نمط حياة معين.
تبرير نقابة الأطباء
وفي تبرير نقيب الأطباء الدكتور شرف أبو شرف، لأسباب رفع المعيانة الطبية، يقول “الأطباء هم أيضاّ مواطنون يعيشون في لبنان، ويعانون من الوضع الاقتصادي والمعيشي، وارتفعت أسعار كل القطاعات. لماذا نستثني الطبيب اللبناني من رفع قيمة المعاينة؟!”
وأشار شرف في حديث إلى موقع “الجريدة“، الى أن “أكثر من 3 آلاف طبيب هاجروا لبنان هذه الفترة، لعدم القدرة على تأمين الحد الأدنى من العيش الكريم”. والجدير بالذكر، بحسب قوله، أن جميع الأطباء الذين هاجروا البلد، “سنحت لهم فرصة عمل بشكل سريع، بسبب الخبرات والمؤهلات والدرجات العليا في شهاداتهم، الا أن المدخول قليل نسبةً إلى البلاد التي هاجروا إليها”.
كما طالب شرف، عبر “الجريدة”، الأطباء، الالتزام بالتسعيرة الرسمية للمعاينة الطبية التي وضعتها نقابة الأطباء، مشيراً الى أن “الطبابة هي مهنة حرة، كغيرها من المهن، ويحق للطبيب أن يضع التسعيرة التي تناسبه، وفي هذه الحالة يستطيع المواطن زيارة الطبيب الذي يرى أن فحصيته تناسب مدخوله”. وأكد شرف أنه لا يزال هناك العديد من الأطباء الذين يتقاضون أجوراً هزيلة، وفي بعض الأحيان تكون المعاينة مجانية اذا لزم الأمر، أي في الحالات الانسانية.
وفي ختام حديثه، ناشد شرف الدولة اللبنانية، لدفع مستحقات الطبيب وإعطائه حقوقه الاجتماعية والقانونية، وتأمين الضمان الاجتماعي في مرحلة التقاعد، ورفع الضمان الحالي من الدرجة الثانية الى الأولى.. وغيرها من الحقوق.
المواطن رهين “الإنسانية”!
إذن، القطاع الصحي كغيره من القطاعات اللبنانية، يعاني الكثير في البلدٍ المنسيّ من قبل حكّامه والمسؤولين عن حمايته، والعاجز عن تأمين أدنى حقوق ومتطلبات القطاعات الموجودة فيه، وخاصة في ما خصّ الشؤون الصحية. وبالتالي، يرى القطاع الصحي أن عليه مواكبة الارتفاع الحاصل في جميع أسعار الخدمات والسلع، لذلك قامت نقابة الأطباء برفع الحد الأدنى للمعاينة الطبية، تاركين له الحق في وضع السقف الأدنى لفحصيّته، أو الحق في عدم أخد بدل المعاينة في الحالات الإنسانية والاجتماعية الصعبة.
في النهاية، يبقى المواطن اللبناني، خاصةً ذوي الطبقة الاجتماعية المتوسطة، “رهينة إنسانيّة” كلّ طبيب وصاحب مهنة حرة، وصولاً الى المحال التجارية والسوبرماركت وغيرها من الاحتياجات اليومية.
على أمل أن يشعر أصحاب القرار، في هذا الوطن البائس، بالمواطن الذي أُجبر على العيش بالفقر، وعلى الأقل النظر في الاستحقاقات الأولية التي تتربع على عرشها “الطبابة”.