الرهان على “تسوية معلّبة”.. رهن المستقبل لـ”كفّ عفريت”!

| جورج علم |

عند الإستقواء، يختلّ الولاء، وعندما يستجير مكوّن داخلي بنفوذ خارجي ليستقوي به على الشركاء في الوطن، تأتي النتائج عكسيّة، ومن يتمنّى الريح لتسعفه، قد تدفع بأشرعته بعيداً عن شاطىء الأمان.

فاض التاريخ بالتجارب، وأثبتت “الدعسات الناقصة” بأن توازن لبنان قائم على دعامتين، إحترام خصوصيات سائر المكونات، وعدم الاستقواء بالخارج على من في الداخل. وعندما يختل أحدهما، يفقد البلد إستقراره.

شطّ بعض الموارنة يوما نحو “إسرائيل” يستجيرون بها، فكان ما كان من تداعيات، يدفعون ثمنها غالياً لغاية الآن. ربما كانت الظروف قاهرة، لكن النتائج كانت صادمة: عزلة وإنعزال، صراع سياسي وأمني، تصدّع مجتمعي، ومزيد من التفكك في أوصال الوطن، وفرز مناطقي، وهجرة بإتجاهين، إلى الداخل أو نحو الخارج. لا هم تمكّنوا من تحقيق ما يبتغونه، ولا سائر المكونات مكّنتهم، وانتهت “المسرحيّة” بفصول داميّة، ومشاهد مروّعة.

حديثاً، صدرت دعوات عن مرجعيات وازنة تقول بالحياد الإيجابي كخيار آمن، لكن الرفض صيغ بنبرة عالية، وحادة، لا تخلو من عبارات تخوينية. وطن محشور بـ18 طائفة، و18 جمهوريّة، و18 ولاء، لا علاقة له بالحياد، ولا يمتّ إليه بصلات قربى. عقيدته “كول وشكور”. فطرته “مال قبّان”. مساحته ساحة عرض مفتوحة أمام حركة البيع والشراء. فلسفته الفساد، وحماية الفاسدين، ونهجه “مرّر لي، لأمرّر لك”!

يمرّ التاريخ في حياة الشعوب والأمم تاركاً محطات وعبر يستفيد منها الوعي الجماهيري، باستثناء “الشعوب اللبنانية” التي لا ترى من التاريخ إلاّ ما يُرشّق مصالحها، ومن الجغرافيا ما يحصّن مطامحها. تجربة الأمس المخزية، تتكرّر اليوم، ذهب البعض إلى الإقليم يستجير بفائض قوّة لتحرير الأرض من الإحتلال، فكانت التجربة مكلفة، لكنّها جاذبة، وتنطوي على مغريات، بينها التفوّق، واشتداد العزيمة، ورفع الصوت، ومخاطبة سائر المكونات برفع النبرة، ورفع سقف المطالب، والتأكيد على “ما نريد، وما لا نريد”، فكان تنابذ وتنافر، وكانت ردّة الفعل، ولا تزال، مسكونة بهواجس كبرى نتيجة الخروج عن الضوابط الدستوريّة، والقانونيّة، ومصادرة القرار المصيري.

لقد بدّلت الأقدار الأدوار، والذين كانوا على رصيف الاعتراض ضد الجنوح الأول، ينتشون اليوم حيويّة نتيجة الجنوح الثاني بالاتجاه المعاكس نحو محور الممانعة، وينخرطون في تنفيذ مشروع إقليمي تحت شعار الدفاع عن قضيّة تحوّلت إلى “وتد جحا” يغرس فيه كلّ طامح أو طامع مسماراً وفق مقتضيات مصالحه. لقد تحوّل “لبنان القضيّة” إلى لبنان الفئويّة، والجهوزيّة المستنفرة عند خطّ النار، المؤهّلة للعب الأدوار، والمؤتمنة على تنفيذ مهمّات لا تدرّ له لبناً وعسلاً، بقدر ما تستنزف ما تبقى من حضور وطن، وحيويّة شعب.

ماذا من فائض بعد، سوى لغة الأرقام، والعدّاد الذي ترقص عقاربه مع كلّ أزيز صاروخ، أو طلقة مدفع ليشير إلى عدد الوفيات، والمصابين، والمنكوبين، تاركاً تراجيع الرقم عند أكوام الخراب والدمار، والأرض المحروقة، واللوعات المخنوقة.

وكما الدبّابة الإسرائيليّة لم تفكّ أحجية، ولم تحلّ عقدة، ولم تخدم مساراً إصلاحيّاً، بل أمعنت في تدمير وطن، وزعزعة كيان، وتفتيت شعب.. كذلك الصاروخ المستورد المحصّن بإحداثيات جهويّة فائقة الجودة، لن يوحّد شعباً، ويفكّ أحجية، أو يحل عقدة، طالما أن الإنهيار نحو المزيد من الإنحدار.

ذهب بعض لبنان في الماضي إلى حيث لا يجب، وعاد مهيض الجناح. ويذهب اليوم بعض لبنان إلى حيث لا يجب، منفرد الجناح، وليس من وحدة وطنية حول تحالفاته، ولا من قناعة جامعة حول خياراته. وطن مذبوح من الوريد للوريد بسكاكين زعمائه الذين نهبوا الشعب، واستولوا على ودائعه ومدخراته، وارتكبوا الكبائر بمؤسساته، عينهم على الخارج، واتكالهم على “هارون” طافحاً بالثراء، يأتي بأمواله ليوزّع “الإكراميات” على أيد مهيأة للتوقيع على تسوية، مقرونة ببراءة ذمّة، ومدبجة بأحرف المصالح المتعددة اللغات، والأغراض، والأهواء!

لم يكن مستغرباً القول ضمن بيئة مسكونة بالهواجس، إن لبنان كان دائماً منصّة، وحقل اختبار، إنطلاقا من العهد الإستقلالي و”ديمقراطيّته التوافقيّة”، إلى “المدّ الناصري”، إلى “المدّ الفلسطيني”، إلى “المدّ الإنتحاري” والحروب الأهليّة، إلى “المدّ السوري”، إلى “المدّ الثوري” الذي لم ينته فصولاً بعد. هذا الخواء الكبير رافق الوطن الصغير في مساره الاستقلالي المتعرّج، والمتكىء دائماً على سند عربي، أو دعم غربي، لكنه في زمن البحث عن “اليوم التالي” في غزّة، والضفة الغربيّة، و”الكيان المحتل”، والجنوب، وسوريا، والعراق، واليمن، والكثرة الكثيرة من الدول المرتبطة بشرايين البحر الأحمر، لابد من خلاصات ثلاث:

الأولى، كلّ “فائض قوّة” ينبع من الخارج، سيكون موظّفاً لخدمة مصالحه، على حساب الداخل، ويمعن في تجويف المناعة الوطنيّة.

الثانية، كلّ استقواء، إنما هو إستقواء على الوطن، وكل إلغاء لأي مكوّن إنما هو إلغاء للوطن.

الثالثة، إن لم يبن ربّ، البيت فعبثاً يفعل البناؤون. وكل رهان على تسوية معلّبة، إنما رهان على وطن مفخخ، ومستقبل يرقص على كفّ عفريت!