جبهة الجنوب.. ما بين التدابير والمحاذير

| جورج علم |

ذهبن في حضن الجدة بنزهة أخيرة على طريق القدس، لم يكن المشوار ربيعيّاً في حضرة تشرين، ملك الموت والإصفرار، بل كان الإياب الأخير للبراعم النديّة: ريماس، وتالين، وليان. فات الثلاثة الصغار بأن طريق عيناتا تؤدي إلى القدس، وفاتهم أن طريق القدس مزروعة هذه الأيام بالأحقاد، والمصالح المسعورة بأعتى فظائع التوحّش لتحقيق مطامع توسعيّة، ومطامح إستعماريّة.

ويحتاج مهندسو هذه الأيام إلى “أطلس” جديد، لتحديد هوية القدس ومعالمها. إنها من منظار محور الممانعة: المدينة الفاضلة، حاضنة الأقصى، وقبلة المسلمين، وترخص من أجلها كل التضحيات. ومن منظار الغاصب المحتل: إنها العاصمة الأبديّة “لدولة إسرائيل”. وإنها من منظار الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، وغالبيّة الدول العربيّة والإسلاميّة: مجرّد “عاصمتين، و”القدس الشرقيّة” عاصمة لدولة فلسطين!

وما يعقّد الحسابات، هو اختلاف الأهواء والنزوات، فالطريق إلى القدس ليست واحدة، وتختلف كلّ عن الأخرى بإختلاف الأهواء والمصالح. أصحاب القضيّة يعرفون المدينة وشعابها، فيما المتاجرون يرسمون الطريق، ويحددون المعالم، وجهتهم القدس، لكن مقاصدهم أقرب من كرسيّ إلى طاولة المفاوضات، يجلسون حولها عندما يحين الأوان، ليناقشوا الملفات الصعبة، ويرسموا خرائط المصالح، ويحدّدوا مواقع النفوذ على خريطة الشرق الأوسط الجديد، بإسم القضيّة، والحقوق المشروعة…

الرحلة ما بين عيناتا والقدس، تجاوزت السقوف المرسومة، لترسم خطّاً بيانيّاً جديداً للمواجهة. دماء الأطفال في الجنوب امتداد مريع لدماء أطفال غزّة، فعلها الاحتلال الإسرائيلي على مرأى ومسمع وزير الخارجيّة الأميركي أنتوني بلينكن الذي كان لا يزال يجول على بعض عواصم دول المنطقة. فهل من تنسيق؟ وإلى متى؟
إعلام العدو يقول إن بنيامين نتنياهو تجرأ على رئيس الدبلوماسيّة الأميركيّة، وقالها بصوت مرتفع، ونبرة غاضبة: لا للهدنة الإنسانيّة. لا لوقف إطلاق النار إلاّ بعد الإفراج عن جميع الأسرى.

ربط وقف إطلاق النار بمصير الأسرى. موقف وصفه الأميركيون بـ”الخطوة التراجعيّة”. كان شرطه الأول القضاء على “حماس”، والسيطرة على قطاع عزة، وترحيل السكان إلى سيناء. لكن، ربما كان التراجع هذا في الإعلام فقط، وليس في الخطط العملانيّة التي تنفّذ بالحديد والنار. إن نتنياهو ملاحق في الداخل من أهالي الأسرى، وعائلات جنود الإحتياط، كونه لم يحقق شيئاً من الأهداف التي رسمها في هجومه على غزّة، لكي يقنع شعبه بإمكانية الجلوس إلى الطاولة التي سبقه إليها الإيراني لوضع شروطه موضع التنفيذ مقابل موافقته على ” صفقة” تحرير الأسرى.

وتلحظ دوائر دبلوماسيّة غربيّة مؤشرات ثلاثة تزيد من قلق نتنياهو:
• إنقلاب التعاطف الدولي من الـ”مع” إلى الـ”ضد” بعد المجازر التي يرتكبها بأطفال غزّة. لقد زنّرت مظاهرات الإحتجاج البيت الأبيض، والكثير من بيوت الحكام الأوروبييّن. ما يجري يشير إلى أن مرحلة السماح قد انتهت، وآن وقت الحساب…
• تزايد الأصوات المرتفعة في الأمم المتحدة، والعديد من عواصم دول القرار، المطالبة بحل الدولتين. وأي طاولة سوف تعقد في المستقبل، سيكون فوقها هذا الملف، كبند أول، وكممر إلزامي إلى أي تسوية…
• إن الأميركي لا يزال يراهن على “الجزرة”. صحيح أنه استدعى حاملات طائراته، وحشد بوارجه، وغوّاصاته النووية في المتوسط، لكنه لم يستعمل “العصا” بعد. وسائطه مع قطر مستمرة لشبك مفاوضات مع طهران حول الأسرى وملفات أخرى تدور في فلك الشرق الأوسط الجديد، أكثر مما تدور في فلك القضية الفلسطينيّة.

وتبرر “واشنطن بوست” غضب نتنياهو نتيجة شعور يساوره بأن هناك في الإدارة الأميركيّة من يريد تحقيق “بنك الأهداف” من دون أن يكون له فيه الدور الكبير، والمؤثر. وهو ينظر إلى الوساطة القطريّة، المنسّقة والمدعومة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على أنها مجرد وسيلة تقود إلى غاية هي أقرب إلى “صفقة” أميركيّة ـ إيرانيّة، تؤدي إلى الإفراج عن الأسرى مقابل الأفراج عن الودائع المالية الإيرانيّة المحتجزة في الخارج، ورفع العقوبات الأميركيّة، والسماح للنفط الإيراني بالتدفق نحو الأسواق العالميّة محرّراً من العقوبات، والتفاهم على البرنامج النووي، ومعدلات تخصيب اليورانيوم، ورسم خريطة طريق جديدة للأذرع الإيرانيّة المتمدّدة في كلّ من اليمن، والعراق، وسوريا، ولبنان.

ولأن المستجدات متسارعة، ونهر المفاجآت دفّاق، وبإتجاهات عدّة، لا يمكن التنبؤ بما سيحمله المستقبل من تطورات وحسابات يبنى عليها، لكن مع قرب انعقاد القمتين العربيّة والإسلاميّة في المملكة العربيّة السعوديّة، فإن المعوّل عليه يندرج في السياق التالي:
– هناك تفاهم أميركي ـ سعودي قد حصل نتيجة المحادثات المكثّفة التي أجراها وزير الدفاع السعودي مع دوائر القرار في واشنطن، وتلك التي يجريها وزير الخارجية الأميركي مع نظيره السعودي، يقضي بضرورة إعادة الملف الفلسطيني إلى محرابه العربي ـ الإسلامي.

– إن فتح جبهة الجنوب يحتاج إلى عاملين: وصول المفاوضات الأميركيّة ـ الإيرانية إلى الحائط المسدود، وهذا احتمال لا يزال مستبعداً. أو القيام بعمل عسكري مباشر ضدّ مصالح إيرانيّة حيوية… عندها ستسقط كل الروادع والخطوط الحمراء!