جان ايف لودريان

مهمّة لودريان.. ورباعيّة “الاستثمار في الاستقرار”!

| جورج علم |

لا يزال حبراً على ورق، لكن هناك حبر وورق، ومسافة طويلة من التشاور الفرنسي ـ القطري ـ الإيراني حول لبنان، تحت عنوان “الإستثمار في الإستقرار”.

الجديد، أن الولايات المتحدة، وإسرائيل من خلالها، على دراية. ليست حاضرة إلى الطاولة، لكنّها مواكبة، ومطلّعة على كل جديد، ومشجّعة، إنطلاقاً من بعدين استراتيجييّن: ليس في التشاور من اختراق صيني للساحة اللبنانية، ولا من اختراق روسي يتجاوز الخطوط الحمراء الأميركيّة ـ الأوروبيّة ـ الغربيّة.

يضاف إلى ذلك، أن النظرة الأميركيّة تجاه لبنان، إنما تشكّل جزءاً من نظرتها الشاملة إلى سوريا، فالخطاب الإعلامي المعادي للنظام، لم يغيّر الكثير من مفرداته، لكن الدبلوماسيّة الأميركيّة واكبت الانفتاح الإماراتي ـ السعودي ـ العماني ـ البحريني على دمشق، وشجّعت المسعى السعودي ـ المصري في تأمين عودتها إلى حضن الجامعة العربيّة، وقدّمت حوافز غير معلنة خفّفت من وطأة “قانون قيصر” على الوضعين الإنساني والاجتماعي.

وبإختصار: ما بدأ ثلاثيّاً، بين باريس، والدوحة، وطهران، تحوّل إلى رباعي بمشاركة واشنطن، الغيورة بدورها على مصالح تل أبيب.

وانطلق البحث حول “الإستثمار في الإستقرار” من قاعدتين:

الأولى: ترسيم الحدود البحرية في الناقورة. كان الأميركي حاضراً إلى جانب الإيراني، والفرنسي، والقطري، والإسرائيلي. والتفاصيل مدوّنة في محاضر المفاوضات السريّة التي أدت إلى اتفاق الإطار.

والثانية: العقود المبرمة التي فتحت الطريق أمام شركتي “توتال ـ إنيرجي” إلى الحقل النفطي رقم 9، وبعض الحقول المفترضة في المياه الإقليميّة اللبنانيّة.

لم تكن زيارات وزير الخارجيّة الإيراني الدكتور حسين أمير عبد اللهيان، وغيره من كبار المسؤولين الإيرانييّن إلى بيروت، إستعراضيّة، بقدر ما هي عمليّة.

يقول دبلوماسي عربي متابع: “ما جاء ليتفقّد منصّة الصواريخ، بل جاء يستطلع بيئة المشاريع. لم يعد الاستثمار بالصاروخ مفيداً، ومربحاً. الإستثمار في المشاريع أجدى، وأبقى. تحدّث مع الحكومة عن معامل كهرباء، وشبكات طرق، وسكك حديد، وبنى تحتيّة، وشروط مغرية للتعاون والنهوض، وكانت الحجّة اللبنانيّة ضعيفة معلّلة بالخشية من السعوديّة، ومن العقوبات الأميركيّة. اليوم تمرّ العلاقات السعوديّة ـ الإيرانيّة بشهر عسل، والعلاقات الأميركيّة ـ الإيرانيّة مشرّعة على حوار المصالح، ويشهد الشرق الأوسط تحوّلات عميقة بين الدول والأنظمة نحو تصفير المشكلات والنزاعات، لحماية المصالح، واعتماد إقتصاديات عصريّة منتجة قادرة على مواجهة التحديات الصعبة.

وليس الفرنسي بمنأى عن هذه البوابة الشرقيّة. يأتي مستثمراً، وباحثاً عن فرص، وعن قاعدة انطلاق نحو دول المنطقة، والخليج. كان له دور في ترسيم الحدود البحريّة، ونال بالتنسيق مع حزب الله “كوتا” وافرة من الاستثمارات في مرفأ بيروت. وزير الحزب في الحكومة، وزير الأشغال، متهم بإدارة الشراكة الفرنسيّة ـ اللبنانية، للحصول على أفضل شروط التعاقد لتنفيذ مشاريع بنيوية ضخمة يحتاجها لبنان. ولا أحد يتحدث عن حقيقة الدور الذي تلعبه شركة “توتال” في المياه الإقليميّة اللبنانيّة، يكفي القول بأنها وصلت إلى بحر صور من خلال بوابة الحزب بتأشيرة ممهورة بخاتم السرايا الحكومي.

فرنسا ” الأم الحنون”، هي اليوم فرنسا المصالح و”نقطة عالسطر”. وحيث تهبّ رياح المصالح تتهادى الأشرعة الفرنسيّة.

أما المبعوث القطري، فيعرف العنوان جيداً، لم يكن بحاجة لا إلى وسيط، ولا إلى دليل. قطر في بيروت منذ الأمس البعيد، واليوم، وغداً. كانت السبّاقة في ورشة إعادة إعمار الجنوب بعد عدوان تموز 2008. وأميرها السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، كان القائد العربي الأول الذي عاين دخان الحرائق، وغبار الركام. قطر كانت شريكة في مفاوضات الترسيم. قطر كانت المبادر في دعم معنويات الجندي اللبناني بعدما إبتلع حوت الدولار خميرة راتبه، فقدّمت 60 مليون دولار لدعم رواتب ضبّاط وأنفار الجيش اللبناني. قطر، الوفود والبعثات ورجال الأعمال، تبحث عن باقة من المشاريع والإستثمارات الضخمة. هي تعرف أن استقرار لبنان، أهم من آبار نفطه وغازه. استقرار لبنان يحوّله تلقائيّاً إلى حديقة وارفة بالاستثمارات في مختلف المجالات، وعلى أرفع المستويات.

أما الأميركي، فلا يكتفي بدور شرطي المرور، إنه متحصّن في برج المراقبة. يتابع، يدقّق، يصدر التوجيهات، يفعّل القرارات. قد لا تغويه كثيراً الإستثمارات، لكن هذا التل اللبناني المرتفع على ساحل المتوسط، يشكل نقطة أميركيّة استراتيجيّة لاستطلاع أوضاع دول الشرق الأوسط، وتوصيف أحوالها.

من حضن هذه الخلفيّة الاقتصاديّة ـ السياسيّة، تنطلق مهمّة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان. كان وزيراً للخارجيّة لسنوات طويلة، وعاين حقبات العسر واليسر منذ جائحة “كورونا”، إلى “جائحة” أوكرانيا. مشروعه في لبنان توفير الاستقرار، تمهيداً لإطلاق عجلة الاستثمار. ليس وحده، هناك فريق عمل متعدد الهويات والانتماءات، إلى جانبه من مجموعة دول الـ(5+1)، إلى سائر الدول المهتمّة، والمتابعة. يعرف أن فرنسا لا تستطيع إجتراح المعجزات، زمن المعجزات ولّى، ولا بدّ من خريطة طريق يتمّ رسمها وتحديد معالمها، بالتنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة، وإيران، ومصر، والسعوديّة، وقطر، ومن دون إستفزاز الآخرين، لتحصين ما تبقى من الهيكل اللبناني، ووقف الإنهيار، ووضع كل الإمكانات لتجنّب الأسوأ، وإرساء ما تبقى من وطن على سكّة الحل، والبدء بنصب خيمة الإستقرار لتظلّل ورش الإستثمار.

ما يحمله إلى بيروت يبقى ملكه، إلى حين أن يكشف النقاب عن الخفايا، والخبايا. لكن الرئيس نبيه برّي أعطى إشارات واعدة، وحدّد أمام وفد نقابة المحرّرين، موعد وصوله، وبرنامج عمله في الدعوة إلى الحوار، واختيار مجلس النواب كمكان لإستقبال الضيوف من السياديّين، إلى الممانعين، إلى المتقاطعين، والتغيّيرين، والحيادين… وتفاءلوا بالخير تجدوه…