وليد جنبلاط.. “الاستدارة” الأخيرة؟

/ خلود شحادة /

يقف وليد جنبلاط عند الشاطئ، لا يمانع ولا يمل الإنتظار، يترقّب جيداً حال المركبَين اللذين يستعدان للإبحار، ومن ثم يصعد في الذي يرى من منظاره أنه الخيار “الأكثر سلماً وأماناً”، ليس على البلد فحسب، بل على وجوده السياسي وقوة حزبه.
أحياناً ينظر إلى عدد الركاب، وتارة ينظر إلى متانة المركب، وحيناً إلى قبطان هذا المركب.

لا عجب، إن بقي واقفاً على الشاطئ حتى يعود كل مركب من اتجاه، ويصفّق هو لمن يصل أولاً سالماً، لذا سمّي في الكثير من الأحيان “بيضة القبّان”، فيكون موقف وليد جنبلاط هو الفيصل في القرارات والخيارات المصيرية في البلد.

تدخل قصر المختارة كل يوم سبت، فتجد حشداً من الناس في صالون خصّصه “البيك” للقائهم. يستمع إليهم مباشرة، ويعمل على حل مشكلاتهم. يخبرك الحاضرون أنه يتميّز عن غيره من “الزعماء” اللبنانيين بأن بابه “مفتوح دائماً”.

هكذا، استطاع وليد جنبلاط الحفاظ على شعبيته في “الجبل” طوال 46 عاماً، على الرغم من مرور عواصف عاتية، و”تشتت” حزبي عاشته. وما زالت، الطائفة الدرزية في لبنان، في عهدة “البيك”، وارثاً هذا العرف “الاستقطابي” عن والده الشهيد كمال جنبلاط.

في إحدى الغرف، صور رفاق الدرب، من حراس ومساعدين توفاهم الله، معلّقة على الجدران بطلب من “البيك”، تخليداً ووفاء لذكراهم.
وعلى حائط آخر، لوحة كبيرة تضم صوره مع كل السياسيين، حيث جمع فيها الأضداد، الذين لم يجتمعوا على فكرة قط.. لكن جمعهم “وليد بيك” على حائطه.

موزاييك
صورة تجمعه بالسياسيين اللبنانيين على أحد جدران منزله

في آذار 1977 دخل جنبلاط المعترك السياسي بعد اغتيال والده، وفي أيار 2023 أعلن استقالته، ليصار إلى توريث سياسي جديد من الجد إلى الإبن فالحفيد، ويكون تيمور وليد كمال جنبلاط، هو الوريث “الشرعي” لرئاسة “الحزب التقدمي الاشتراكي”، كما المقعد النيابي ورئاسة الكتلة النيابية.

بين آذار 1977 وأيار 2023، ما يقارب من 5 عقود من الزمن، “تفنن” فيها جنبلاط باتخاذ القرارات المختلفة، والمواقف المتناقضة جداً، والآراء المتقلّبة، حتى لقّب بأنه “شباط السياسة” لأنه “ما بيثبت ع رأي”.

جنبلاط، الحاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية العام 1973، من الجامعة الأميركية في بيروت، يؤخذ عليه في العمل السياسي “الاستدارات” الدائمة، و”التكويع” عند المآزق. ولكن ربما هذا هو السبب الأساسي لسحب حزبه “متل الشعرة من العجين”، في المواقف الحساسة، وتجنيبه خطر الانزلاق إلى ما لا تُحمد عقباه.

علامات استفهام وتعجب واستغراب، وضعت على العلاقة “الوطيدة” جداً، التي جمعت جنبلاط بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، عقب اغتيال والده كمال جنبلاط، على الرغم من أن وليد جنبلاط يتّهم سوريا عبر “قوات الصاعقة” التي تمولها دمشق، باغتيال والده.


علاقة متينة إلى الحد الذي كان يقول فيه حافظ الأسد “ما تزعلولي وليد”، خلال عملية توزيع الحقائب الوزارية إبان تشكيل الحكومات، وخلال الانتخابات النيابية العام 1992 التي جرت بحسب المحافظات، بعكس ما نص اتفاق الطائف، فقط ليكسب وليد جنبلاط أكبر عدد نواب داخل كتلته.

كما أُعطي جنبلاط، بطلب سوري، موازنة قيمتها مليار ونصف مليار دولار خلال تسلمه حقيبة وزارة المهجرين.
وعندما سئل كيف تصافح وتقيم تسوية مع من قتل والدك، أجاب “مش مستحي، عملتها عشان الجماعة مش الفرد”!

ظل حليفاً لسوريا في الجبل إلى تاريخ وفاة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وإبعاد حليفه قائد الأركان السورية السابق حكمت الشهابي عن وظيفته، فبدأ يبتعد عن دمشق.

“الغرام المستحيل” بين جنبلاط وسوريا لم يستمر، بل تبدد عند إعلان “ثورة الأرز” في 14 أذار 2005، حينها انقلب جنبلاط على الرئيس السوري الحالي بشار الأسد والنظام السوري، ملقباً إياه بـ “الأفعى السامة” يومها، ومطالباً بإخراج القوات السورية من لبنان.

بالإضافة إلى دعمه لـ”الثورة السورية” ضد النظام السوري عند إنطلاقها العام 2011 ووصفه نظام الأسد بالوحشي.
لم تكن هذه “التكويعة” مستغربة فقط لناحية “انقلابه” على النظام السوري، بل أيضاً وضع يده بيد حزب “القوات اللبنانية”. فخلال الحرب الأهلية اندلعت “حرب الجبل” بين “التقدمي الإشتراكي” و”القوات اللبنانية” آنذاك.. ليصبح رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع فيما بعد “الصديق العزيز” على قلب جنبلاط.

الغريب في العموميات، وليس مستغرباً لدى وليد جنبلاط، أنه يرأس حزباً كان رأس حربة في الصراع ضد العدو الإسرائيلي ودعم القضية الفلسطينية. إلّا انه بعد 14 آذار، أصبح “حزب الله”، الذي يشكل المقاومة العسكرية المنظّمة في لبنان ضد العدو الإسرائيلي بعد تحرير الـ2000، خصمه اللدود، رافعاً شعار نزع سلاح “حزب الله” مع حلفائه تيار “المستقبل” و”القوات”.

لكن تحالفه مع “القوات” و”المستقبل” لم يستمر طويلاً، حيث بدأ جنبلاط بشكل تدريجي بتغيير موقفه السياسي، جانحاً إلى معسكر الثنائي “حزب الله” وحركة “أمل”.

وفي كانون الثاني 2011، حدد موقفه من الأزمة في لبنان عقب سقوط حكومة سعد الحريري، وأعلن اصطفافه إلى جانب قوى 8 آذار في تسمية نجيب ميقاتي رئيس حكومة في لبنان.

وليد جنبلاط

رغم كل هذه التقلبات في المزاج السياسي التي عاشها وليد جنبلاط، إلا أن الثابت الوحيد كان منذ ما بعد الطائف حتى اليوم، هي العلاقة المتينة جداً التي تجمعه برئيس مجلس النواب ورئيس حركة “أمل” نبيه بري، حتى أُطلق على علاقتهما أنها “زواج ماروني” لا طلاق فيه، فلم “يثبت” جنبلاط في علاقة مع شخصية سياسية لمدة طويلة إلا الرئيس بري.
ولكن هذه العلاقة لم تنتج بعد دبلوماسية لينة، لأنها بنيت على ركام “حرب العلمين” التي وقعت في العام 1985، بين حركة “أمل” و”الحزب التقدمي الإشتراكي”.

لا يمانع جنبلاط من الجواب، عندما يُسأل عن سبب الإستدارة في ملف ما.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، في مقابلة متلفزة، عندما سئل عن مشاركته بمعارك 7 أيار، أجاب أنه لم يكن يرغب بذلك وقال جوابه الشهير “تحمست.. حمسوني”!
فهل حقاً شخصية سياسية بحنكة وليد جنبلاط، وتاريخه السياسي، “يتحمّس” بهكذا قضية؟ أم أن جوابه كان مخرجاً للإستدارة؟

يدرك جنبلاط هذا الأمر جيداً، فهو لا “يتحمس” ليتهوّر، ولا يمل ليعتزل السياسة، إنّما يتفنن في خياراته ومواقفه من كل النواحي: الزمان، الظروف، والدوافع.. وربما يكون ملف رئاسة الجمهورية وما يلحقه من تطورات حالية على الساحة المحلية والإقليمية سبب أساسي لقرار الإستقالة… لا أحد يدري ما يدور في بال جنبلاط، ربما حتى جنبلاط نفسه… لأن قرار الليل قد يمحوه النهار!