/ محمد عباس /
“الاهتمام بفهم قواعد اللعبة السياسية والواقع السياسي للأعداء والمجاورين، ومن ثم إتقان العمل السياسي المنضبط بالسياسة الشرعية في مواجهة هذا الواقع، لا يقل أهمية عن العمل العسكري، خصوصاً إذا وضعنا في اعتبارنا أن لحظة قطف الثمرة، هي لحظة ناتجة عن ضربة سياسية وقرار سياسي حاسم وإدارة سياسية متقنة” (أبو بكر ناجي/ ادارة التوحش)
ربما ما كان أبو بكر ناجي، كاتب نظرية “إدارة التوحش”، ليتخيل أن تصمد رؤيته في التسلط الدموي لأقل من عقد من الزمن، وتسقط مع آخر الطلقات في معركة “الباغوز” ربيع العام 2019.
التنظيم الذي أشبع المنطقة قتلاً ودماراً، وأنهك الوعي العربي والإسلامي، لا سيما في شرق المتوسط، ببروباغندا جاهلية أقرب لإنتاجات الرعب الهوليوودية، بات محل حصاد سياسي وأمني لمشغليه وخصومه على السواء.
في أقل من سنتين خسر تنظيم “داعش” 3 من زعمائه على الأرض السورية، والكثير الكثير من مكانته الميدانية والأمنية.
لا شك أن لقطف الرؤوس القيادية المتتالي أسباب متعددة، في مقدمها:
– ترهّل بنى التنظيم الأمنية، كنتيجة مباشرة لاعتقال عدد كبير من القادة، وانقطاع الوصل والربط الجغرافي بين عدد كبير من “ولايات” التنظيم.
– افتقاده السيطرة الميدانية في العراق وسوريا، والفشل المتوازي لغزوات الثأر وحرب الإستنزاف التي أعلنها الناطقون باسم التنظيم، ومن ضمنها تحرير مقاتليه وبعض قادته من سجن غويران في الحسكة.
– التخلخل الاداري الذي عصف بالتنظيم جراء الهزائم المتلاحقة، وجنوحه تالياً إلى العمل اللامركزي وسياسات الاكتفاء الذاتي للولايات التابعة.
– شح موارده المالية، ما يفسر لجوء العناصر إلى عمليات السلب والنهب والإغارة على القوافل المدنية، وفرض الأتاوات تحت تهديد القتل.
– الشرخ العقائدي في بنى التنظيم بين التيارين “البنعلي” و”الحازمي”، على خلفيات فتوى التكفير المتسلسل.
يرى “الحازميون” أن “لا عذر بالجهل” في مسائل التوحيد، لذا يكفّرون “كل من تلبس بناقض من نواقض الإسلام”.
ويضيفون إلى هذا، أن كل من لم يحكم بكفر هذا “المتلبس” فهو كافر أيضاً، بناء على قاعدة “من لم يكفّر الكافر فهو كافر”.
وهكذا إلى ما لا نهاية، على عكس معارضيهم الذين لا يعمدون إلى التسلسل في التكفير، فيكتفون بتكفير الجاهل لا من أنكر كفره.
– تركيز الجهد في الساحل الغربي لأفريقيا، حيث قابليات التشغيل هي بأمداء أوسع، كما الانشغال بمقارعة أخوة المنهج من “القاعدة” و”طالبان” في أفغانستان “ولاية خراسان”.
– اشتداد الطوق السياسي والميداني على “هيئة تحرير الشام” في شمال غرب سوريا، واضطرار زعيمها أبو محمد الجولاني إلى تقديم “الأضاحي” الأمنية للمؤثرين، ومن ضمنهم قيادات في: تنظيم “حراس الدين”، “جند الأقصى” و”داعش” (قتل 3 من زعماء “داعش” في مناطق سيطرة الجولاني).
كل ذلك جعل منه عرضة للاستهداف المباشر والمتابعة الدقيقة، وتسابق الخصوم والمشغلين على تسجيل النقاط، وحصد المكاسب من بوابته التي باتت مشرّعة للجميع.
ما سبق، يأتي في موازاة تراجع بعض المشاريع الدولية في غرب آسيا، والسقوط التدريجي لخيار المذهبة، وتدارك بعض المؤثرين الفاعلين الإقليميين للأخطاء، المباشرة منها وغير المباشرة، التي اقترفتها دوائر القرار والتخطيط في عواصمهم في العشرية الأخيرة، كما التحول البيّن في الاستراتيجية الأميركية بما خص الشرق الاوسط، ومحاولة النأي بالنفس عن الإشتباك المباشر في الميدانَيْن العراقي والسوري، ما دفع العديد من الأدوات المحلية لها لإعادة التفكير وصياغة الحلول للخروج من مصيدة الاستفراد قبل فوات الاوان.
وعليه، وفي ظل الانعطافات السياسية المتعددة لتركيا والسعودية على وجه الخصوص، ومحاولة كلتيهما رأب ما انصدع من خطوط اتصال مع الاقليم، ومنه إيران وسوريا تحديداً، والاستفادة العاجلة من فرص إعادة الإعمار في الميدان الدمشقي، لا يبدو أن التنظيم قادر على إيجاد رافعة إقليمية أو راعٍ بقابليات استثمار عالية على غرار ما سبق.
كل ذلك، وغيره من الأسباب المؤثرة، كفعالية خصومه في الردع والحرب الأمنية، حوّل التنظيم تدريجياً من أداة استراتيجية إلى أخرى تكتيكية (انطلاقاً من قاعدة “التنف”)، لا تتعدى وظيفتها الإخلال الموضعي بالأمنَيْن السوري والعراقي بنتائج محدودة، كمنح الرعاة مرونة تفاوضية أكبر وأسعاراً أعلى في صفقات التسويات المتنقلة.
وعليه، من المتوقع استمرار التنظيم بتأدية وظيفته الآنية المحدودة في المنطقة بالمدى المنظور، من سلب ونهب وتعدٍّ على خطوط المواصلات الدولية والمنشآت الحيوية في الشرق والجنوب السوريين، في انتظار نضوج عام للتسويات، التي ستحد تدريجياً من التأثير الميداني لمقاتليه، وتسرّع من إمكانية تحولهم إلى ساحات جهاد ونكاية أخرى، لعلَّ الساحل الغربي لأفريقيا ووسط آسيا أبرزها.