تمثال سيدة حاريصا

ضمانة لبنان “19,4”!

/ جورج علم /

رمى الرئيس نجيب ميقاتي رميته في البركة المأزومة، فأحدثت تموجات واسعة لم تهدأ بعد. قال بـ 19,4 بالمئة، ففاعت الدبابير. الرقم عند المسيحييّن مقلق، لا يهوون كثيراً لغة الأرقام، خصوصاً في ظلّ الظروف المصيريّة الراهنة، ولا يرغبون الإعتراف بالفواجع التي يرتكبها قادتهم بحق أبناء بجدتهم، لأنهم أدمنوا اللعب عند حافة الهاوية غير عابئين بالمصير. والمكابرة عندهم لوثة من جنون العظمة!

يبقى السؤال: لماذا الـ 19,4 في هذا التوقيت؟ وما الدافع، أو الأسباب الموجبة؟
أجاب الرئيس ميقاتي على السؤال ببراغماتيته المعهودة. كان مقنعاً لدى البعض، ولم يكن كذلك لدى الغالبيّة، والتنوّع في الرأي، نابع من التنوّع في القناعات، ولبنان المتنوّع، اكتسب على مدى تاريخه ميزة حضاريّة، إنه بلد الـ 18 طائفة، والـ 18 خصوصيّة، والـ 18 أحوال شخصيّة.

وبمعزل عن سياسة تكسير الصحون وأواني المنزل اللبناني، الدارجة هذه الأيام، وعلى نطاق غير معهود، لا بدّ من التوقف عند محطّات أربع، أعطت الـ 19,4، قوّة زلزال بدرجة 4,4، وفق مقياس ريختر، ضرب المقلب المسيحي ـ الماروني:

الأولى، إن الرقم، إن لم يكن دقيقاً اليوم، فهو صادق غداً، أو بعده. والمسؤول الأول هو ربّ البيت، وإذا كان بالطبل مولعاً، فما شيمة أهل البيت سوى الرقص.

يُسأل عن الرقم، أو ما يقاربه، هم القادة الموارنة، زعماء الأحزاب، والتيارات، والتنظيمات… ماذا حققوا للمسيحييّن منذ 13 نيسان 1975 لغاية اليوم؟ أين التخطيط الاستراتيجي؟ أين العقل العلمي، المدرك، المبدع؟ أين مراكز البحوث والدراسات؟ أين مجلس الحكماء الذي يبتّ بأن هذا يصلح لهذا المنصب، أو الموقع، وذاك لا يصلح؟! الجواب اليتيم عن كلّ هذا، أن “صراع الديوك”، كان، ولا يزال، حامي الوطيس، وقد صبغ المسيحيين في الكثير من محطات النزال، باللون الأحمر القاني، وأعلى ما بين مربعاتهم جدراناً من الكراهية، والحقد.

يُسأل عن الرقم، الكنيسة بأحبارها، ومؤسساتها، ورهبانياتها، وأديرتها، وأبرشياتها، وجامعاتها، ومدارسها، ومستشفياتها، وسائر قطاعاتها. لماذا هذا الانحدار؟ ومتى يوقظ جرس الإنذار الضمائر الخاملة؟ وهل من علاج لوقف النزف، قبل فوات الأوان؟! هل من رقم حول عنصر الشباب الباقي في مرقد العنزة؟ هل من رقم حول تراجع نسبة الارتباط، والتخلّي عن مشروع العائلة؟ هل من رقم حول نسبة الطلاق، نتيجة عوامل اقتصاديّة، واجتماعيّة، ومعيشيّة؟ هل من رقم حول المهمّشين سياسيّاً، ومعنوياً من أصحاب القدرات، والكفاءات؟!… الـ 19,4 جرس إنذار.

الثانيّة، الرئيس الشهيد رفيق الحريري أوقف العدّ، فلماذا يفعل الرئيس ميقاتي؟ الطائف أوقف العد، وأقرّ المناصفة، فلماذا يُطعن الطائف من جانب مسؤول من بيئته، وفي هذا التوقيت المأزوم محليّاً، وإقليميّاً، ودوليّاً؟!
تجوز هذه الأسئلة العامرة بالقلق والضياع، في الوقت الذي تتراجع فيه كميّة الأوكسجين الوطني في الزواريب الطائفيّة، والفئوية، ويزدهر النفاق السياسي القائم على نظريّة فرّق تسد؟!

الثالثة، هناك إقرار عميق عند المسيحييّن، وغيرهم من المكونات، حول المدى الذي بلغه الخلل في التوازنات. والخلل هنا لا يقتصر على الرقم، والعدد، بل يتجاوزه إلى المسلمات الوطنيّة: خلل في الولاء. خلل في الإداء، وأسلوب التعاطي. خلل في تطبيق الدستور، والقوانين النافذة. خلل عند تجاوز سقف الدولة ودور المؤسسات الرسميّة، وهذا ما أدى الى تعطيل الحوار، وتضييق جسور التواصل، ودفع سائر المكونات للبحث عن البدائل لحماية جماعاتها، ودورها، وحضورها، في حال التمادي بتحويل الوطن الى ساحة لصراع المحاور.

أهميّة هذا الكيان أنه مختبر التعدديات والثقافات. وضامن التوازنات. ونموذج العيش الواحد المشترك. يصلح أمره، ويزدهر ربيعه، عندما تحترم المعايير والخصوصيات. ويسوء وضعه، وتتعثّر أحواله، عندما يختلّ الميزان نتيجة الأثقال الفوقيّة، أو نهم التفرّد.

الرقم 19,4 صادم للمسيحيين في لحظة تفخيخ الكيان، والإخلال بالتوزنات، والإمعان في الفوقيات لهجاً، ونهجاً، وممارسة، لأن نبش التاريخ، وإعادة إصلاحه من قبل البعض، إنطلاقاً من لبنان، هو فعل تدمير كلّي من دون بدائل، أو السعي لفرض بدائل معلّبة، تنسف الصيغة، والميثاق، والعيش المشترك.

الرابعة، إن الرقم 19,4 يخصّ المسيحييّن دون غيرهم من سائر المكونات. المسيحيّون قلقون في هذا المنعطف على موقعهم في هرميّة الدولة والنظام. قلقون على الاستحقاق الرئاسي. قلقون على أنه لم يعد يحظى بأولويّة عند أصحاب الشأن، وُضع على رفّ الإنتظار، بحجّة أن جلسات الانتخاب قد تحوّلت إلى مسرحيّة هزليّة في ساحة النجمة، من دون البحث الجدّي عن المخارج.

قلقون لأن الممارسات السارية المفعول تحت شعار “أحكام الضرورة”، تكرّس أعرافاً جديدة على حساب الدستور، وتؤكد عمليّاً للقاصي، والداني أنه بالإمكان الإضطلاع بالمسؤوليات، وتسيير شؤون الناس من دون الحاجة إلى رئيس للجمهوريّة. وقلقون للتمادي الممنهج في تدمير ما تبقى من مؤسسات: من القطاع المالي إلى المصرفي، والقضاء، والتعليم، والصحة، والمؤسسات الإنتاجيّة، والاقتصاديّة، وبوار الفراغ، ومواسم الهجرة، وإزدهار الجريمة المنظمة، ومصانع المخدرات، وشبكات التوزيع، والممارسات الممنهجة، وعن سابق تصوّر وتصميم، لتفخيخ أساسات النظام، والقضاء على الكيان.

لم يحدّث الرئيس ميقاتي المسيحيين، وعموم اللبنانييّن، عن الأرقام الأخرى. لم يحدّثهم عن مليونين و300 ألف نازح سوري. لم يحدثهم عن أرقام الولادات، ومجتمع النزوح، هو مجتمع شاب. لم يحدّثهم عن رقم اللجوء، ومستقبل اللاجئين، والمخيمات. لم يحدثهم عن ألوف اللاجئين من جنسيات أخرى، الفارين من برك النار والدم في بلدانهم إلى واحة لبنان.

وفي كلّ الظروف والأحوال، قد فعل حسناً عندما قال، وأعلن، لأنه يعرف جيداً بأن ضمانة بقاء لبنان السيّد، الحر، المستقل، المنفتح على محيطه العربي والعالم، وطن الرسالة، ومختبر تفاعل الحضارات، والأديان هي فقط 19,4.