/ جورج علم /
ضلّت المبادرات الإتقاذيّة الطريق. لم يُترك لها معبر للدخول، ولا هي سرجت حصانها للإقتحام. قيل الكثير عن محاولات عربيّة، أوروبيّة، وأميركيّة، لكن لا التوقعات صدقت، ولا التمنيات تحققت، لا بل رُزق اللبنانيّون مع مطلع العام الجديد، بمولود غير منتظر في الطابق الرابع من قصر العدل يعرّي ما تبقى من ستر، ويفضح ما بقي من سرّ. لم يعد مهماً معرفة متى جاء، وكيف دخل، بل المهم معرفة المقاصد، والأهداف، وأين تنتهي كرة الثلج، وكيف، ومتى، ومن ستأخذ في طريقها؟!
منذ سنوات، والمواطن اللبناني يعاني من أزمة إقتصاديّة صعبة، وظروف معيشيّة خانقة، في ظلّ الإنهيار المستمر لليرة اللبنانية مقابل الدولار. ومنذ سنوات، إنطلق حوار مع صندوق النقد الدولي، واعتبر التدقيق المحاسبي الجنائي من مستلزمات التفاوض، إلى جانب مسار الإصلاحات الماليّة والاقتصادية المطلوبة، لكن لا شيء قد تحقّق.
تمّت الإستعانة بمؤسسة “الفاريز إند مارسال” لإجراء تدقيق جنائي ـ مالي شفّاف في حسابات المصرف المركزي، والوزارات، والمصالح المستقلّة، والصناديق، والمؤسسات العامة، لكن العراقيل يُسأل عنها وزير المالية السابق الدكتور غازي وزني الذي كان يتحرّك ما بين مقار المسؤولين لتدارك الوضع، وفتح الأبواب التي كانت تقفل عمداً لمنع المؤسسة من إنجاز مهمتها.
الآن لا كلام، ولا اهتمام حول ما انتهت اليه. لعبة التذاكي مستمرّة. سياسة الهروب إلى الأمام تُمارَس بنجاح منقطع النظير على حساب مصالح البلاد والعباد حتى وصلنا إلى ما نحن عليه، وتحت تأثير عاملين:
- إن التدقيق الجنائي قد أصبح مطلباً خارجيّاً، من صندوق النقد، إلى “المجموعة الدوليّة لدعم لبنان”، إلى البنك الدولي، والصناديق الأخرى المماثلة.
- إن التدقيق الجنائي أعمق بكثير من التدقيق المالي، كونه يهدف للوصول إلى إكتشاف العمليات غير الشرعيّة، والغش، والتزوير، واختلاس الأموال العامة، والتحويلات غير القانونية إلى خارج البلاد.
الآن وصلنا الى هنا، لا رئيس، لا حكومة منبثقة عن مجلس نيابي منتخب، لا قضاء منتصب عند قوس العدالة. لا محاربة جديّة للفساد، وفي قصر العدل بعثة أوروبيّة تمارس دوراً مسوّراً بعلامات استفهام كبرى حول حقيقة الأهداف، والأبعاد.
وتتدفق من هذه الينابيع أزمة الإستحقاق الرئاسي، وفي بعض الكواليس الدبلوماسيّة العربيّة، والغربيّة، كلام مفاده بأن الحل هو عند الأميركي إذا شاء، وهو القادر على تدوير الزوايا الحادة، وهو المتمكّن من مخاطبة الدول الفاعلة، أو المؤثرة، للتلاقي على كلمة سواء. ولكن لا شيء البتة لغاية الآن سوى تسريبات منقولة تتحدّث عن تكليف وكيل نيابة عن الأصيل. لكن الحركة السياسيّة التي رافقت المهلة الدستوريّة منذ مطلع أيلول، لم تظهر وكيلاً، ولا حتى مجموعة من الوكلاء، تنادوا إلى طرح مبادرة إنقاذيّة للإستحقاق!
ويبدو لبنان، وفق التصنيف الأميركي، على هامش الإنتظار. عند ترسيم الحدود البحريّة، كان الوسيط آموس هوكشتاين حاضراً نشطاً، تمكّن من تحقيق ما يريد بسرعة قياسيّة، رغم العوائق والمطبات، ربما لأن مصالح بلاده تقضي بذلك، ومصالح إسرائيل بالدرجة الأولى.
بالمقابل، ومنذ سنوات، وعدت السفيرة الأميركيّة دوروثي شيا اللبنانييّن بالكهرباء من الأردن، والغاز من مصر، وبادر المسؤولون إلى المفاوضات، وتوقيع الإتفاقيات، لكن لا الغاز وصل، ولا الكهرباء شعشعت، والسبب المعلن أن طريق الوصول إلى لبنان يمرّ عبر سوريا، وعلى سوريا “قانون قيصر” الذي يفرض شروطاً، وعقوبات على الجهة المخالفة. وعند المراجعة، والسؤال، جاء الجواب بأن المسألة عالقة عند الكونغرس الأميركي كونه الجهة صاحبة الإختصاص، وهو يرفض، كونه يعتبر أن أي تعديل لهذا القانون من شأنه أن يحدّ من فعاليته، ويمنح دمشق فرصاً تستفيد منها، وتقلل من فعاليّة ضغوطه.
والهدف من فتح هذا الملف تحديداً، هو لفت النظر إلى ما يعانيه لبنان اليوم من أزمة الكهرباء، والإنقسام العمودي حول سبل المعالجة بين مؤيد لعقد جلسة لمجلس الوزراء، وبين معارض لها. وكان بإمكان الولايات المتحدة، لو كانت الرغبة صادقة، والمصالح طاغية، أن تسهّل عمليّة انتخاب رئيس، أو على الأقل تسهيل وصول الغاز من مصر، والتيار من الأردن. ولكن، مع الأسف، لا هذا تحقق، ولا ذاك، بل بادر الكونغرس إلى مناقشة مشروع قانون، وضع مسودته مجموعة من المشرّعين الأميركييّن، يهدف إلى تعديل “قانون قيصر” للعقوبات المفروضة على دمشق، بإضافة تعريف لما سميّ بمصطلح “المعاملة الهامة” للسنة المالية 2023، والمتعلّقة بالطاقة (غاز، نفط، كهرباء) بحيث يتمّ تحديد المعاملات التي توفّر الدعم المادي، أو غير ذلك، والتي قد تستفيد منها دمشق، وتحديد الأرقام التي تحدد قيمة “الصفقة” بدلاً من تركها مبهمة. وإذا ما نجح الكونغرس في إقرار هذا التعديل، فهذا يعني أن على لبنان الانطلاق من آليات عمل جديدة للتكيّف مع مقتضياته!
لكن هل الفرقاء اللبنانييّن قادرون على التكيّف؟
عندما أنجز هوكشتاين تفاهم ترسيم الحدود البحريّة، وعد وزير الطاقة وليد فيّاض بتسهيل الإجراءات الأميركيّة، لتمكين لبنان من الحصول على الطاقة من مصر والأردن، تعاطفاً مع المرونة التي أبداها الجانب اللبناني في المفاوضات. وعند التذكير، جاء الجواب بأن الحاجة ضروريّة لإنجاز الإصلاحات أولاً، وأن الولايات المتحدة، والمجتمع الدولي لن يتركا لبنان… لكن أمام التقاعس المستمر، وغياب الإصلاحات، أصبح من الطبيعي أن يصل الوفد القضائي الأوروبي إلى الدور الرابع من قصر عدل لبنان!