“مولانا” جلال الدين الرومي.. ناكر “الأمراء” و”سلطان العلماء”

لم يرّحل جلال الدين الرومي قبل 748 سنة عن عمر 66 سنة (1207 – 1273). هو في مرقده في “قونية” التي أحب، الى عالم الحياة بفكره وعلمه وإيمانه الذي حفر في تاريخ الشعوب والأوطان، وشكل حلقة أساسية في سيرورة الحضارة الإسلامية والإنسانية، فجمع القوميات في بوتقة دينية وفلسفية وعلمية وأدبية واحدة، حتى تحولت ذكرى وفاته الى مناسبة في دول عدة لتجديد الحياة في قلوب محبيه والمتأثرين بأفكاره وعلومه، وهو الذي لٌقب بـ”سلطان العلماء” وعالم “الصوفية” و”المولوية”، حتى تكلم في قبره مُحاكياً زواره ببيتٍ من الشعر يحمل عُمق المعاني: “يا من تبحث عن مرقدنا بعد شدِّ الرحال، قبرنا يا هذا في صدور العارفين من الرجال”.

جلال الدين الرومى، هو شاعر وعالم صوفي فارسي الأصل تركي الموطن، يعتبر من أبرز أعلام التصوف الفلسفي في التاريخ الإسلامي وأكثرهم تأثيرًا على مرّ العصور. ويوصف بأنه ذو رؤية تمثل رسالة عالمية تخاطب كافة حضارات العالم باعتبارها مصدر إلهام لكل الناس. وقد عُرف باسم “مولانا جَلَال الدِّين الرُّومي”، وله العديد من المؤلفات ترجمت الى الكثير من اللغات في دول عدة لا سيما في الولايات المتحدة التي نال الرومي فيها صفة الشاعر ذي الأعمال الأكثر مبيعًا عام 2014. وأبرز مؤلفاته: ديوان “المثنوي” الذي يتضمن زهاء 26 ألف بيت شعر فارسي، وتظهر فيه شخصيته الفكرية المتصوفة.

ولطالما قورن الرومي بشعراء البشرية العظام أمثال غوته وشكسبير بل إن المستشرق الإنجليزي نيكلسون الذي أمضى ربع قرن في ترجمة ودراسة أعماله، يعتبره أحد أعظم شعراء التاريخ لأنه قدم لنا صورة شاملة للوجود بأكمله. ولا تزال أشعار الرومي الأدبية في عصرنا الراهن تقرأ في المساجد والكنائس والمعابد والمسارح كما في الساحات العامة في برلين ونيويورك وغيرها.

ومن أقواله المأثورة التي لازالت حية إلى الآن: “قد تجد الحب في كل الأديان، لكن الحب نفسه لا دين له”.

ويقول عنه المفكر المصري عباس محمود العقاد في أحد مقالاته “تتنافس على نِسبة جلال الدين أربعة أوطان… فلا جرم أن تتفتح الأبواب للتنافس عليه، بحجة من الحجج، لكل منافس يحرص على هذه الدرة النفيسة، وإنها في الحق لذخيرة للحضارة الإسلامية وللإنسانية، يأخذ منها من شاء من بني الإنسان بنصيب موفور”.

المولد والنشأة

وُلد محمد بن محمد بن حسين الخطيبي البلخي (المعروف بجلال الدين الرومي) يوم 6 ربيع الأول سنة 604هـ الموافق 30 سبتمبر/أيلول 1207م في مدينة بلخ التي تقع اليوم في أفغانستان لأسرة علمية تربطها مصاهرة بالأسرة الحاكمة في الدولة الخوارزمية، فقد كان والده أحد علماء المذهب الفقهي الحنفي، وقد لٌقب لمكانته العلمية وجرأته في قول الحق والإنكار على الأمراء الظلمة بـ”سلطان العلماء”. ويعدّ الرومي صاحب الطريقة المولوية، وقد عُرف باسم “مولانا جَلَال الدِّين الرُّومي”.

الدراسة والتكوين

درس جلال الدين الرومي العلوم الشرعية على والده أولا، ثم على تلميذٍ لوالده يُدعى برهان الدين المحقق الترمذي. وبعد سفره إلى الشام لطلب العلم سنة 630هـ تتلمذ على عدد من الشيوخ الذين أخـذ عنهم بعض العلوم الشرعية والعقلية ومبادئ علم التصوف.

ففي حلب التقى الشيخ كمال الدين بن العديم، وفي دمشق أخذ عن الشيخ سعد الدين الحموي والشيخ عثمان الرومي، وعن الفيلسوف الصوفي الشيخ محيي الدين بن عربي وتلميذه الشيخ صدر الدين القونوي.

التجربة الصوفية

طبقًا لإحدى الروايات التاريخية؛ فقد كان والد الرومي شديد الإنكار على سلطان بلخ فأجبره على مغادرتها، بينما تفيد رواية أخرى بأن استيلاء المغول على بلخ هو سبب خروجه منها. وعلى كل فقد تركها هو وأسرته سنة 609هـ وتنقلوا من مدينة إلى أخرى حتى وصلوا عاصمة الخلافة بغداد، ومنها واصلوا السير إلى مكة المكرمة.

غادرت أسرة الرومي مكة إلى ملطية في آسيا الصغرى التي كانت تسمى آنذاك “بلاد الروم” (دولة تركيا اليوم) ثم سكنت قرمان، ثم انتقلت سنة 626هـ إلى قونية التي كانت عاصمة “سلاجقـة الروم” فاستقرت هناك وطاب لها المُقام، ومن هنا جاء تلقيب ابنها جلال الدين محمد بـ”الرومي”.

في قونية اشتغل الرومي مجدداً بالفتوى والتدريس، فأقبل عليه التلاميذ واستمال الناس بعلمه وزهده حتى لقبوه “إمام الدين” و”عماد الشريعة”، وبلغ عندهم مرتبة من سعة العلوم والمعارف دعوه بسببها “سلطان العارفين”.

وتعرف في سنة 642هـ (1244م) إلى شيخ فارسي يدعى شمس الدين التبريزي، فكان لقاؤه به نقطة تحول في مسار حياته ولحظة إعادة ميلاد لفكره وسلوكه، إذ دخل على يديه في زمرة أرباب التصوف فبدأ نظم الشعر الصوفي، وقطع كل صلة له بتلامذته وبالناس “وقلل من مجالسته مع أهل العلوم الظاهرة واتجه إلى العلوم الباطنية”، حسب أحد كُتاب سيرته.

ومن هنا كان التبريزي هو أكثر شيوخ الرومي فضلا عليه وأقواهم تأثيرا فيه، لأنه الشخصية التي جعلته يسلك طريقه الصوفي الفلسفي ويتمثله مداسة وممارسة، بعد أن كان منقطعا إلى العلوم الشرعية والعقلية السائدة في عصره آنذاك. ويؤكد الرومي نفسه ذلك بقوله: “إن شمس الدين التبريزي هو الذي أراني طريق الحقيقة، وهو الذي أُدين له ب”.إيماني ويقيني

دخل الرومي تاريخ التصوف العالمي من أوسع أبوابه باعتباره أحد أهم المتصوفين العظام في التاريخ الإسلامي، ونشأت عن تراثه في تركيا طريقة صوفية عُرفت بـ”المولوية” واشتهرت بعده بطقوس الرقص الدائري حول النفس، وجاء اسمها اشتقاقا من اللقب الذي أطلقه الأتراك عليه وهو “مولانا جلال الدين الرومي” أو “مولانا” اختصاراً. وقد انتشرت هذه الطريقة لاحقا في مختلف أصقاع العالم.

ما هي “المولوية”

تقوم “المولوية” على حقائق دينية وعلمية مدروسة:

– الدوران (المولوي) من اليمين إلى الشمال، بعد أن يثبت قدمه اليسرى على الأرض ويحرك اليمنى، وذلك عكس قارب الساعة

-ومع حركة الطواف حول الكعبة، يبلغ إجمالي عدد الدورات التي يقوم بها (المولوي) 365 دورة، في مدة قد تزيد على 15 دقيقة دون توقف، نسبة لعدد أيام السنة، الأمر الذي يؤكد أن هذه الرقصة الصوفية، مأخوذة من حالة علمية مدروسة قام بها مؤسسها الرومي، وقد يزيد عدد الدورات في حال زادت المدة المحددة للوصلة المولوية.

وأتباع هذه الطريقة يسمون بـ”دراويش المولوية”، ويجب أن يصاحب أداءهم للرقص آيات وابتهالات وكانت حلقات الذكر المولوية تقام فى مساجد أنشأت خصيصاً لهذه الطريقة، ورقص المولوية ليس عملا أو مهنة يعمل بها وإنما هى إرث دينى واجتماعى، ويتدرج المشاركون بها فى ترتيب تفرضه الصفات والأعمار المختلفة للراقصين المولويين.

ويرتدي (المولوي) ثوبًا أبيض طويلاً حتى القدمين، يرمز إلى الصفاء الروحي، والزهد والبعد عن الدنيا، لاسيما أن المتصوف يوصف بالزاهد الذي لا يعني بحب الدنيا وشهواتها، إذ يفرغ قلبه من ذلك، وعلى قدر تخلص القلب من تعلقه بزخارف الدنيا ومشاغلها، يزداد لله حباً، إذ يعرف أن الزهد هو الطريق للوصول إلى الله، ونيل حبه ورضاه”.

المنهج التصوفي

ويعتبر منهج الرومي التصوفي من إفرازات بيئة بلاد فارس التي شهدت آنذاك نهضة كبيرة في التصوف الإسلامي، لكنها غلبت عليها النزعة الفلسفية والفكرية ولم تهتم كثيرًا بالسلوك والتربية، وانعكس ذلك في فكر الرومي ومسلكه الصوفي الفلسفي الذي غلبت عليه الدعوة للاتجاه إلى الله و”الفناء فيه”.

ويرى الباحث المغربي محمد ناعم أن شخصية الرومي “لم تسلم مـن التحريف والوضع والتحامل، إما من طرف أناس لا يفهمون من التصوف إلا تكايا الانعزال وحرفة أصحاب الأسمال وطقطقة المسابح، وبعض الأعمال والطقوس والعادات التي يبرأ منها دين الإسلام نفسه”.

كما أسس الرومي “المذهب المثنوي” في الشعر الذي كان أبرز تجلياته ديوانه الشعري المعروف بـ”مثنوي معنوي” والموصوف بأنه أكبر مرجع تصوفي باللغة الفارسية، فقد كتب فيه مئات الآلاف من أبيات الشعر عن العشق الإلهي من منظور صوفي، وعن قضايا عديدة في الفلسفة التي أخذ على أصحابها “المبالغة في تقدير الحواس وتقديس العقل”، حسب تعبير ناعم.

تحظى أشعاره الصوفية برواج كبير في العالم بعد أن لقيت استحسانا وأحيانا انبهارا من المسلمين وغير المسلمين، الذين عكفـوا على ترجمة مؤلفاته لا سيما في الولايات المتحدة التي نال الرومي فيها صفة الشاعر ذي الأعمال الأكثر مبيعا عام 2014.

وفي مايو/أيار 2016 تحدثت تقارير إعلامية إيرانية عن تعاون بين إيران وتركيا على تسجيل ديوان شعر الرومي المسمى “مثنوي معنوي” كتراث ثقافي مشترك بين البلدين لدى منظمة اليونسكو الأممية، وهو ما أثار انتقادا رسميا وشعبيا في أفغانستان التي ترى أن الرومي وُلد فيها وكان “شاعرا عالميا و ثروة نفيسة لكل الشعوب المثقفة”.

المؤلفات

ترك الرومي عدة مؤلفات ما بين منظوم ومنثور تناول فيها العديد من المسائل الصوفية والفلسفية والأدبية، فمن منظوماته: “ديوان شمس الدين التبريزي” الذي يحتوي ألف بيت سجل فيها ذكرياته مع أستاذه الأثير لديه التبريزي، و”الرباعيات” التي يبلغ عددها 1959 رباعية، وديوان “المثنوي” (يُعرف بـ”مثنوي مولوي”) الذي يتضمن زهاء 26 ألف بيت شعر فارسي، وتظهر فيه شخصيته الفكرية المتصوفة.

استغرق تأليف “المثنوي” الذي يتوزع على ستة أجزاء- سبع سنوات، ويوصف بأنه من ذخائر التراث الأدبي العالمي، وقد وُضعت عليه شروح كثيرة بالفارسية والتركية والعربية، كما تُرجم كليا أو جزئيا إلى عدد من اللغات الأوروبية.

ومن مؤلفاته المنثورة: كتاب “فيه ما فيه” المتضمن دروسا ألقاها في مجالسه العلمية وإجابات عن أسئلة وجهت إليه في مناسبات مختلفة، و”مكاتيب” أي رسائله إلى معارفه ومريديه، و”مجالس سبعة” وهو مجموعة مواعظ.

أقوال

ومن أقواله: “قد تجد الحب في كل الاديان. . لكن الحب نفسه لا دين له”.

“لا يهدأ قلب العاشق قط ما لم يبادله المحبوب الوله. وحين يشع نور الحب في القلب فذاك يعني أن هناك إحساساً بالحب في القلب الآخر”.

“من لم يمت بالعشق، فهو جيفة”.

“علمت التفكير. . بعدها تعلمت التفكير داخل قوالب. . بعدها تعلمت أن التفكير الصحيح هو التفكير من خلال تحطيم القوالب”.

“ارتقي بمستوى حديثك لا بمستوى صوتك. إنه المطر الذي ينمي الأزهار وليس الرعد”.

“وفي بحر العشق ذبت كالملح لم يبق كفر ولا إيمان. . شك ولا يقين. . يشع في قلبي كوكب تختبئ فيه السبع سماوات”.

“أنا أشبه أنا واحِدُنا يُشبِهُ الآخر”.

“أيهما أصدق في الطاعة؟ من أطاع الملك في الغيب أم من أطاعه في الحضور؟”.

” بدون الإيمان بالغيب تغلق على نفسك كوة الدار”.

“بغير هذا الحُب، لا تكن”.

“دافعان راسخان: واحدٌ أن أحتسي زمناً طويلاً وأفرِطُ الآخرُ أن لا أفيقَ على باكرٍ في التو”.

” ربما تكون الأذنان هما القطنتين اللتين تحجبانك عن السمع!. على المرء أن ينفذ إلى قلبه بنور العقل ويرى واقعه لا أن يكون عبدًا للنقل”.

علاقته بالموسيقي

وتعتبر “قوة الحب” لدي “مولانا” أكثر ما دفع نجوم موسيقى بوب غربيون مثل مادونا ترجمات أشعاره، واعتقاده في الفائدة الروحية للموسيقى والرقص.

وفاته

توفي جلال الدين الرومي في ١٧ كانون الأول  العام 1273 م عن عمر 66 عامًا، ودُفن في ضريحه المعروف في “قونية”.